أحيوا أمرنا

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله فالق الحبة ومجري الأمور كيف يشاء المعز المنتقم لأوليائه من الظالمين المقتدر على كل شيء يحي ويميت له القوة والعزة، والصلاة والسلام على أشرف خلقه الصادق الأمين المبعوث رحمة للعالمين ابي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة المؤبدة على اعدائهم اجمعين إلى قيام يوم الدين.

حل شهر محرم الحرام على المسلمين وخصوصا أتباع أهل البيت عليهم السلام في هذا العام أثناء جائحة عالمية.

فشرع النقاش والجدل حول كيفية إقامة هذه الفاجعة التي كانت مصدرا للمثل العليا والقيم الساعية التي جسدها الإمام الحسين  عليه السلام في الطف جعلت السائرين على نهجه والمرتبطين به يحيون ذكراه، وينشرون مآثره، باعتبارها خير أسوة يتأسى بها الناس، فإحياء الذكريات التي تمثل منعطفاً بارزا وتحولا نوعيا في حياة الأمم أمر طبيعي وغير مستهجن، لأنه نابع من ذات الإنسان ومتصل بفطرته.

كما أن الأيام تعتبر مزدهرة وخالدة ومتصفة بالتميز بوقوع الأحداث العظيمة فيها، وأي حادثة أعظم من واقعة كربلاء؟! فالمسلمون الشيعة يقيمون هذه المآتم ويحيون هذه الذكرى الأليمة من هذا المنطلق، ومن منطلقات أُخرى، منها:

امتثال أمر الله تعالى القاضي بمودّة العترة الطاهرة، حيث قال تعالى: ) قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ([1] ، ومواساة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذا المصاب الجلل من أظهر مصاديق المودّة ، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكى على الإمام الحسين عليه السلام ، وهو لم يزل في سني الطفولة.

فقد ورد عن عائشة أنّها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه، والتربة في يده، وفيهم أبو بكر ، وعمر ، وعلي عليه السلام، وحذيفة ، وعمار ، وأبو ذر ، وهو يبكي ، فقالوا : ما يبكيك يا رسول الله ؟! فقال: ” أخبرني جبرائيل، أنّ ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطفّ، وجاءني بهذه التربة، فأخبرني أنّ فيها مضجعه[2].

فنحن نقيم هذه الشعائر لأنّ فيها نصراً للحقّ وإحياءً له، وخذلاناً للباطل وإماتة له، وهذا الأمر أوجب الله تعالى من أجله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وإحياؤنا لهذه الذكرى حفظ لها من الضياع، وصون لمبادئها من التزييف، ولولا ذلك لاضمحلت، وخبت جذوتها، ولأنكرها المخالفون، كما حاولوا إنكار غيرها!!

فالإحياء والمشاركة لشعائر الحسين عليه السلام إحياء لذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنّه قال: حسين منّي وأنا من حسين[3].

إنّ أوّل مجلس هو ما نصبه الإمام زين العابدين عليه السلام في الشام، عندما خطب في ذلك الحشد، وأخذ ينعى ويعدّد صفات أبيه ومظلوميته، والناس من حوله تبكي، مجلس عزاء أقامه في الجامع الأموي[4].

وما كان يفعله الإمام زين العابدين عليه السلام عند مروره بالقصّابين، وتذكيرهم بمصاب الإمام الحسين عليه السلام، وأخذه البكاء أمامهم، فإنّ هذا عزاء لأبيه الحسين عليه السلام في الملأ العام.

وقد روى العلاّمة المجلسي عن بعض مؤلّفات المتأخّرين أنّه قال: ” حكى دعبل الخزاعي قال: دخلت على سيّدي ومولاي علي بن موسى الرضا عليه السلام في مثل هذه الأيّام يعني محرّم فرأيته جالساً جلسة الحزين الكئيب، وأصحابه من حوله، فلمّا رآني مقبلاً قال لي: ” مرحباً بك يا دعبل، مرحباً بناصرنا بيده ولسانه “، ثمّ وسّع لي في مجلسه، وأجلسني إلى جنبه وقال لي : ” أن تنشدني شعراً ، فإنّ هذه الأيّام أيّام حزن كانت علينا أهل البيت، وأيّام سرور كانت على أعدائنا ، خصوصاً بني أُمية ، يا دعبل من بكى وأبكى على مصابنا ولو واحداً كان أجره على الله ، يا دعبل من ذرفت عيناه على مصابنا وبكى لما أصابنا من أعدائنا حشره الله معنا في زمرتنا ، يا دعبل من بكى على مصاب جدّي الحسين غفر الله له ذنوبه البتة ” ، ثمّ إنّه عليه السلام نهض وضرب ستراً بيننا وبين حرمه ، وأجلس أهل بيته من وراء الستر ليبكوا على مصاب جدّهم الحسين عليه السلام، ثمّ التفت إليّ وقال لي: “يا دعبل إرثِ الحسين عليه السلام فأنت ناصرنا ومادحنا ما دمت حيّاً ، فلا تقصّر عن نصرتنا ما استطعت ” ، قال دعبل : فاستعبرت وسالت عبرتي ، وأنشأت أقول :

أفاطم لو خـلت الحسـين مجـدّلاً وقـد مـات عطشـانـاً بشـــط فراتِ
إذاً لـلطمـت الخـدّ فاطم عنـده وأجريت دمع العين في الوجنات

فهنا الإمام (عليه السلام) عقد مجلساً لذكر جدّه الإمام الحسين (عليه السلام)، وأمر بضرب الحجاب حتّى يسمع أهل بيته[5].

روى العلاّمة المجلسي أنّه لمّا أخبر النبيّ (صلى الله عليه وآله) ابنته فاطمة (عليها السلام) بقتل ولدها الحسين (عليه السلام)، وما يجري عليه من المحن، فبكت فاطمة بكاءً شديداً، وقالت: ” يا أبت متى يكون ذلك ” ؟ قال : ” في زمان خالٍ منّي ومنك ومن علي “، فاشتدّ بكاؤها وقالت : ” يا أبت فمن يبكي عليه ؟ ومن يلتزم بإقامة العزاء له “؟

فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله): ” يا فاطمة إنّ نساء أُمّتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي، ويجدّدون العزاء جيلاً بعد جيل في كلّ سنة، فإذا كان القيامة، تشفعين أنت للنساء، وأنا أشفع للرجال، وكلّ من بكى منهم على مصاب الحسين أخذنا بيده، وأدخلناه الجنّة[6].

وما روى الشيخ الصدوق (قدس سره) بسنده عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال : ” إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهلية يحرّمون فيه القتال ، فاستحلّت فيه دماؤنا ، وهتكت حرمتنا ، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا ، وأضرمت النيران في مضاربنا.

ثمّ قال (عليه السلام): ” كان أبي (صلوات الله عليه) إذا دخل شهر المحرّم لا يرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتّى تمضي عشرة أيّام منه، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين (عليه السلام)[7].

وهناك روايات كثيرة واردة في أنّ الأئمّة (عليهم السلام) كانوا يظهرون الحزن والعزاء عند دخول شهر محرّم ، نعم تبقى مسألة لابدّ من الالتفات إليها ، وهي حالة الأئمّة (عليهم السلام) وما كانوا عليه من المطاردة والمحاصرة ، والمراقبة المشدّدة من قبل الدولتين الأُموية هي التي وقعت فيها معركة كربلاء والعباسية ، ومعلوم موقف الدولتين من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ، فلذلك لا تجد أنّ الإمام يقيم العزاء العام ، ويدعو الناس إليه كما يقام الآن ، لأنّه في رقابة وفي محاصرة تامّة من قبل السلطة .

بعد معرفة عظم واقعة الطف على أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم فإقامة العزاء للإمام الحسين عليه السلام في ظل جائحة خطيرة تعصف بالعالم وقد حيرت علماء الطب، وخلاصة كلامهم وما يفهم منهم أن الامر يحتاج إلى تدخل السماء في رفع الجائحة، ويعترف بعض حيث الشفاء يمكن أن يكون بالعلاج بالإيمان وهو ما يسمى ب believe therapy حيث البركات أو الحالة النفسية الإيجابية حين التوجه للعبادات.

ونرى أتباع أهل البيت عليهم السلام يتوجهون إلى الدعاء والصلاة وقراءة القرآن، وأهم ما يختلج عندهم هو إقامة مجالس الإمام الحسين عليه السلام حيث وردت روايات كثيرة تدل على سرعة الاستجابة والشفاء ببركة سيد الشهداء عليه السلام.

فعن زرارة بن أعين عن حمران بن أعين قال: سمعت أبا عبدالله الصادق عليه السلام يحدث عن أبائه عليهم السلام أن رجلا كان من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام مريضاً شديد الحمى فعاده الامام الحسين عليه السلام فلما دخل من باب الدار طارت الحمى من الرجل فقال له: الحمى تهرب منكم ، فقال الامام الحسين عليه السلام: والله ما خلق شيئا إلا وقد أمره بالطاعة لنا[8].

إن الاستشفاء وطلبه يكون إما عبر الوسائل الطبية المتعارفة وأما أن يكون عبر  الإعجاز الإلهي أو الكرامة الإلهية لأولياء الله عز وجل، فبعد عجز حلول العلم الدنيوي ترى طبيعة البشر تبحث عن حلول أخرى، فقد وردت روايات كثيرة في فضل الاستشفاء بتربة الحسين عليه السلام ، وقبل ذكر ماورد فيها أذكر ما ورد عن الاستشفاء بغبار المدينة المنورة، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: غبار المدينة شفاء من الجذام[9].

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: غبار المدينة يبرئ الجذام[10].

وعنه أيضا صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن في غبارها شفاء من كل داء[11].

وقال صلى الله عليه وآله وسلم في الاستشفاء بتربة المدينة: و الذي نفسي بيده إن تربتها لمؤمنة وإنها شفاء من الجذم[12].

ومن أراد التطويل فالمراجع كثيرة من كتب الفرق الإسلامية، فتربة المدينة فيها الشفاء كذلك تربة الامام الحسين عليه السلام حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسينا.

وتربة قبر الحسين عليه السلام فإن فيه شفاء من كل داء وأمناً من كل خوف، روي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: عند رأس الحسين عليه السلام التربة الحمراء فيها شفاء من كل داء إلا السام [13](أي الموت).

وعن ابن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام يأخذ الانسان من طين قبر الحسين عليه السلام فينتفع به ويأخذه غيره فلا ينتفع، فقال عليه السلام: لا والله الذي لا إله إلا هو ما يأخذه أحد وهو يرى أن الله ينفعه به إلا نفعه به[14].

وعنه عليه السلام قال: من أصابته علة فبدأ بطين قبر الحسين عليه السلام شفاه الله من تلك العلة إلا أن تكون علة السام[15].

وهذه أيام محرم الحرام ففيها تقام مجالس العزاء في كل بقاع الأرض وتشهد كل المواساة  لآل رسول الله عليهم السلام ، وخصوصا أن إمام زماننا ـ كما ورد عنه ـ عجل الله تعالى فرجه الشريف، في زيارة الناحية المقدسة:  لأبكين عليك بدل الدموع دما، فكلام الإمام المعصوم حجة، فالبعض الذي لا يعي يرده اليهم، فعن الإمام الباقر عليه السلام : إذا جاءكم عنا حديث فوجدتم عليه شاهدا ، أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به ، والا فقفوا عنده ، ثم ردوه إلينا حتى يستبين لكم[16].

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: نحن سفينة النجاة من تعلق بها نجا ومن حار عنها هلك فمن كان له إلى الله حاجة فليسأل بنا أهل البيت[17].

ونحن نبتغي الى الله الوسيلة كما قال عز ذكره في محكم كتابه العزيز:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)[18] .

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الأئمة من ولد الحسين (عليه السلام) من أطاعهم فقد أطاع الله، ومن عصاهم فقد عصى الله، هم العروة الوثقى، وهم الوسيلة إلى الله تعالى[19].

وان إقامة مجالس العاشورائية هي لأحياء دين الله وتثبيت عقائد المسلمين الشيعة بولائهم للحسين عليه السلام ببقاء نداء الطف لبيك ياحسين في كل زمان ومكان.

جعلنا الله وإياكم من الذين يؤمنون بالغيب حيث قال  عنهم الله عز ذكره في كتابه المبين:( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ )[20] ” الذين يؤمنون بالغيب ” أي بما غاب عن حواسهم من توحيد الله ونبوة الانبياء، وقيام القائم عليهم السلام، والرجعة، والبعث، والحساب، والجنة، والنار وسائر الامور التي يلزمهم الايمان بها، مما لا يعرف بالمشاهدة، وإنما يعرف بدلائل نصبها الله عزوجل عليه.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

حسين المولى

2 محرم الحرام 1442هجري

النجف الاشرف


[1] سورة الشورى آية 23

[2] – فيض القدير 1\266 مجمع الزوائد 9\189 – المعجم الكبير 3\107

[3] كامل الزيارات: 116 – المستدرك على الصحيحين 3\177 – كشف اليقين:305

[4] الاحتجاج 2\38

[5] بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج45 ص 256

[6] بحار الانوار للعلامة المجلس 44\292

[7] الأمالي للشيخ الصدوق: 190

[8]– رجال الكشي: 87 – بحار الأنوار ج44 ص 183    لمناقب ج4 ص51

[9] كنز العمال: 13\205

[10] كنز العمال: 13\204

[11] كنز العمال: 13\206

[12] وفاء الوفاء:1\67و68

[13] كامل الزيارات: ٢٩٣، المستدرك ١٠: ٣٣١، الكافي ٤: ٥٨٨، بحار الأنوار ١٠١: ١٢٣.

[14] الكافي ج4 ص 589

[15] كامل الزيارات:275

[16] الكافي ج2 ص 222

[17] فرائد السمطين 1\37

[18] سورة المائدة آية 35

[19] عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق ج1 ص63

[20] سورة البقرة آية 3

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *