اللحاظ اللفظي بين الاستعمال والتداول العرفي

الميرزا الشيخ عباس العصفور
Latest posts by الميرزا الشيخ عباس العصفور (see all)

بسم الله الرحمان الرحيم

(فحوى المقال العرفي)

كثير من الألفاظ بمداليلها يستخدمها البشر لتدل على مكنونات نفسه أو إرادات يحب إظهارها للعيان على نحو عقود أو إيقاعات أو إقرار أو دعاء أو عبادات أو معاملات مختلفة نظرا لكونها كاشفة يدان بها أو يتحدد الحكم الشرعي عليه بحسبها المنطوقي والمفهومي.

لهذا فإن العرف العام لا يراعي في اعتباره اللحاظ الوضعي واعتباراته  _ لأن ذلك مبحث يخص المتخصصين _ بقدر ما يلاحظ اعتبارات التداول ولو كان في سياقه الاستعمال على وجه من الوجوه إلا أنه غير متقيد بلغة معينة في تداولاته اللفظية التي تستسيغ استعمال اللفظ الدخيل من لغة أخرى أو مخترع شايع بين الناس.

فلو دققنا في كلام الفلاسفة حول موضوع الوضع لوجدنا أفلاطون وسقراط يفسرون الوضع بحالة طبيعية ويعتبرون إثارتها في الذهن مما تألفه الطباع على العكس من أرسطو حيث رفض ذلك واعتبرها من صنع العرف ومما تسالمت عليه الفئات وإلا لما احتاج الإنسان لتعلم اللغة والتدرب عليها، وهناك نقاش مطول في هذا الصدد لا نحتاج لإثارته هنا إلا بقدر محل الشاهد..

وقد اتخذ مذهب الفريقين علماء العرب المحدثين والقدماء في اللغة فمنهم من يرى ذلك من الطباع ومنهم من يراه بوضع واضع ومتسالم عليه بحسب الاستعمال..

حتى فلاسفة الهند يرونه تارة لزوميا وأخرى طبعيا والبعض منهم يراه إلهيا وآخرين تكوينيا مع معناه بقيد الوحدة بين اللفظ والمعنى..

ولكن علماء الأصول يقسمونه في محاور مهمة ، فالوضع خاص وعام ومشتق ومشترك ، والاستعمال حقيقي ومجازي ، والبينونة فيها البين بالمعنى الأعم والبين بالمعنى الأخص وهكذا..

وكل ما مر من المباحث المذكورة يبحثها العلماء لتحصيل المراد والمقصود من النصوص العلمية التي لا تقبل الاختيار بين المعاني وتنتهج طريق الدلالات بغض النظر عن المتداول العرفي واختلاف وضع اللغات.

لكننا لو حققنا في المتداول اللفظي عند الهنود مثلا وعند العرب وغيرهم لما وجدنا قانونا يقيد اعتباطية الألفاظ الشائعة نظرا لسلوك العامة الطريق الأسهل لتبادل المعاني وتقيدهم بما تفرضه عليهم الظروف المحيطة من كلمات دخيلة أو غزو فكري ..

أما ما هو معروف في عرف المتشرعة بالصيغ اللفظية المختلفة من عقود وإيقاعات فهو من الأعراف الشرعية المبحوثة أصوليا متسالم عليها بكيفيات لفظية خاصة تعطي الانطباع العام لما وضعت له من قبل الشريعة من الأثر الذي تتضمنه بمفعولها الخاص.. وقد تتشدد الشريعة باشتراط اللغة العربية في كثير من حالات مقام الجعل والتخصيص لهذه الصيغ إلا أنها خارجة عن مدار المبحوث عنه هنا وداخلة في الأثر العرفي على نحو المراد المقصود أصوليا..

فاللحاظ اللفظي العرفي لا يبحث الوضع وكيفياته رغم أنه من مباحث الألفاظ العمومية بقدر ما يلحظ التداول والتبادر وإن اشتمل على كلمات غريبة عن اللغة المستعملة في البيان ولكنه قد لا يؤثر شرعا على الدوام في العقود والإيقاعات والعبادات بسبب جعل الشارع للصيغ الخاصة التي لا تؤثر في الحقائق الشرعية غيرها ولا يمكن ترتيب أي أثر شرعي بسواها في هذا المقام.

نعم, إدراك العرف لحصول هذا الأثر الواضح من هذه الصيغ الشرعية بحكمها المترتب له أثره الخاص والعام في العرف على نحو الحكم بالزوجية مثلا عرفا بعد الاعتبار الشرعي بحصول الصيغة الشرعية وأثرها الناقل واللازم عقديا أو حصول الإيقاعات بصيغها المؤثرة , ولكنه يبقى تابعا لعرف المتشرعة ولا يمكن للعرف العام إلا ادراك ذلك واتباعه في هذا السياق.

وهذه الصورة مختلفة عن فحوى المقال بالمتعارف المؤثر كإمضاء عقد البيع الفضولي من المالك حيث لا صيغة مخصوصة لذلك شرعا فالصيغة التي أجراها الفضولي معلقة على الإمضاء من قبل المالك الفعلي للمال المعوض, فلو دققنا لوجدنا صيغة البيع حاصلة ولكن الأثر متوقف على إمضاء المالك للتأثير على نقل المعوض لأن الشريعة قد أمضت إمضاء المالك له بلا صيغة لفظية مخصوصة أو مجعولة, واعتبرت في ذلك كل لفظ يصدر من المالك مما يعني إمضاء البيع عرفا وجعلت تأثير صيغة العقد من الفضولي بعد هذا الإمضاء المتسالم عليه بحسب المتداول اللفظي.

ولو تتبعنا لوجدنا الكثير من الصور العرفية التي تقع في طريق الاستنباط الحكمي مما لا يحتاج لصيغة معينة لتفعيله أو تأثيره كالإقرار الذي يعد حجة على أنفس العقلاء إن أقروا بدين أو نسب أو ما شابههما مما يؤثر بالألفاظ المتداولة في الظاهر بإلزام العقلاء به من نسب أو سبب أو دين أو ما يقتضي الالتزام به شرعا بلا موانع..

في كثير من الحالات نجد أن الشرع يقبل من المقر إن ادعى أن مراده غير الظاهر من اللفظ المستعمل بمعنى آخر عبر لفظ متداول متسالم عليه ويقبل قوله وإن اختلف المعنى بين المتداول والمستعمل يطلب منه الحاكم الشرعي التفسير للوصول للمراد الحقيقي والمعنى الذي لا لبس فيه..

الحمد لله رب العالمين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *