كاشفية العرف

الميرزا الشيخ عباس العصفور
Latest posts by الميرزا الشيخ عباس العصفور (see all)

بسم الله الرحمان الرحيم

اختلفت المذاهب الإسلامية في تحديد مدى إمكانية كشف العرف للحكم الشرعي، ذهب الأحناف إلى كون متعينه ثابتا كالنص ، وذهب المالكية إلى كونه أصلا وحملوا كل لفظ مطلق إلى عرفه، وقال الشافعية بأن ما لم يحد فهو موكول للعرف في تحديده، والعادات عندهم محكّمة، وكذلك أرجع الحنابلة المطلق لتقييده بالعرف ..وهكذا.

ولكن الكاشفية والأمارية عادة تكون مسانخة للسياق العقلي ، ففي العرف _كما مر _ سياق عقلائي وتسالم عقلائي في أحد جوانبه، ولكن هذا التسالم تدخل فيه ملاكات الاستحسانات والملاءمة والمنافرة والمصالح الخاصة ومقتضياتها وليست مضبوطة ومحددة بالحسن والقبح الذاتيين الذين يلحظهما العقل مستقلا، وإنما تكون الأحكام بالضمائم الخاصة وتعديلها كذلك بما يتلاءم وتصرف العقلاء عادة.

وفي مثل هذا السياق من التعديل والتصويب العقلائي يمكن اعتباره في الشريعة إذا ما كان مقبولا وممضى من الشارع بحسب الأصول الشرعية بما استقل به العقل والشرع على نحوٍ ممضي، ولكن لم يمضِ الشارع كل تصرفات العقلاء العرفية نظرا لتفاوتهم في الحكم بحسب موازين الاستحسانات والتعديلات وحكم الظروف في ذلك ، بل يعد ذلك من تصرفات العقلاء التي يحكمها الشارع ويحتكمون إليها، فلا يمكن جعل الشارع مسرحا للعقول المتأثرة بالمحيط العرفي كما ولا يمكن جعل العرف حاكما على الشريعة على أي حال.

إن الكشف المدعى قد يختلف فيه العقلاء نظرا لاختلاف تسالمهم في المجتمعات عموما، كل حسب ظرفه، فبأيهم نقتدي في هذه الحالة؟ وهل يمكن تصور اختلاف الأحكام بشكل عام كحكم شرعي وظيفته الكشف ليصلنا للنتائج المتعددة، وهل يمكن تصورها واقعا جميعا؟ أم أن الكشف يتعدد كل بحسب مجتمعه وعرفه وتكون نتائجه هي الواقع ؟!

لربما يقال بأن الكشف هنا عبارة عن وظيفة شرعية وأصل لرفع الحيرة والشك لا أكثر، ولكن طريق الشارع الذي أمضاه هنا قد يختلف بحسب الملاك والسياقات الموضوعية، فالموضوع له حكمه الخاص والكشف عن ماهيته عقلي، وسياق الكشف عقلي بالحمل الأولي بحسب الهيئة والصورة، فما وظيفة تسالم العقلاء الكاشفة، وهل إرجاع المشكوك عرفا للأصل سياق عرفي ؟! سنتكلم عن ذلك في المقالات القادمة .

كذلك من ادعى الكشف العرفي للألفاظ يمر بنفس الأمر، فهناك عرفان في اللفظ ، عرف عام وهو المتداول بين الناس ، وعرف خاص وهو المتعارف عند أهل اللغة _كما مر_ وعند أهل المعاجم والقواميس، فالمتداول بين الناس قد يختلف باختلاف المجتمعات بحسب المعنى وهيئة وبنية الكلمة، كرواية عن النبي صلى الله عليه وآله : هل من امبر امصيام في امسفر؟ المعروفة حيث تم إرجاع الكلام للغة القوم لمعرفة أن أم تقوم مقام ال التعريف عندهم ، وهنا قد تفرد استخدامهم عن أهل المعاجم والعرف الخاص بأهل الخبرة في اللغة، ورجع العلماء في ذلك لتشخيصه من عرف القوم ولسان قبيلتهم فعرفوا المراد، وأحيانا قد يتغير الاستخدام العرفي من زمان لآخر فيرجعون فيه لزمان الأئمة وعصر النص ولكن ذلك شاق جدا بالنسبة لمن طبق ذلك، فإن لم تتوفر هذه الظروف والأمارات فهم يرجعون للعرف الخاص وهم أهل اللغة وتسالمهم، لا تسالم المجتمع عموما ، فالأصل هو عرف أهل اللغة والمجتمع لا يكون أصلا إلا بما يميزه وينفرد به، واختلافاته كثيرة معدودة قد تصدق على كثيرين وقد تصدق على معاني مختلفة، وبهذا يكون السياق كالسابق يحتاج لإمضاء الشارع لطريقة الوصول لمراده.

والحمد لله رب العالمين

 

 

عباس العصفور

النجف الأشرف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *