بصيرة المؤمن

الشيخ فواز سرحان
Latest posts by الشيخ فواز سرحان (see all)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطاهرين

 

بصيرة المؤمن

 

قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[1].

أورد السيد هاشم التوبلاني (قده) في تفسير الآية الحديث النبوي: (ليس‏ الأعمى‏ من‏ يعمى‏ بصره‏، ولكن الأعمى من تعمى بصيرته‏).

من هنا يمكننا الإنطلاق نحو مسألة البصيرة، هناك فرق – ورد في القرآن الكريم والروايات الشريفة – بين البصر والبصيرة، فالبصر قوة مركزها العينان اللَّتان في أعلى الوجه، بينما البصيرة موضعها القلب.

 

أهمية البصيرة:

هناك أكثر من نكتة يمكن أن نجمعها في أهمية البصيرة، وللاختصار نقول:

 

  • دعوة الإمام للفحص عن البصيرة وتحصيلها:

 

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَصَ‏ رُسُلَهُ‏ بِمَكَارِمِ‏ الْأَخْلَاقِ‏ فَامْتَحِنُوا أَنْفُسَكُمْ،‏ فَإِنْ كَانَتْ فِيكُمْ، فَاحْمَدُوا اللَّهَ وَإِلَّا فَاسْأَلُوهُ وَارْغَبُوا إِلَيْه‏) قَالَ فَذَكَرَهَا عَشَرَةً: (الْيَقِينَ وَالْقَنَاعَةَ وَالْبَصِيرَةَ وَالشُّكْرَ وَالْحِلْمَ وَحُسْنَ الْخُلُقِ وَالسَّخَاءَ وَالْغَيْرَةَ وَالشَّجَاعَةَ وَالْمُرُوءَة)[2].

بيت القصيد في البصيرة، ذكرها الإمام بأنها من مكارم الأخلاق التي اختص الله بها الأنبياء، وشدَّدَ على الفحص بحثا عنها، فإنْ لم تكن في أحدنا فليسعى في تحصيلها.

 

  • من لم تكن عنده بصيرة فإنه يضل الطريق لا محالة:

 

جاء في الكافي الشريف عن أبي عبد الله (ع): (الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ لَا يَزِيدُهُ سُرْعَةُ السَّيْرِ إِلَّا بُعْدا)[3].

 

  • العالم يبصر البدعة وينهى عنها، والعابد لا يعلم عنها شيء:

 

وفي النبوي أنه (ص) قال: (فَضْلُ‏ الْعَالِمِ‏ عَلَى‏ الْعَابِدِ سَبْعِينَ‏ دَرَجَةً بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ حُضْرُ الْفَرَسِ سَبْعِينَ عَاماً وَ ذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَدَعُ الْبِدْعَةَ لِلنَّاسِ فَيُبْصِرُهَا الْعَالِمُ فَيَنْهَى عَنْهَا وَ الْعَابِدُ مُقْبِلٌ عَلَى عِبَادَتِهِ لَا يَتَوَجَّهُ لَهَا وَ لَا يَعْرِفُهَا)[4].

 

  • العقيدة عند صاحب البصيرة:

 

وعن الإمام موسى الكاظم (ع) أنه قال: (مَنْ‏لَمْ‏ يَعْقِلْ‏ عَنِ‏ اللَّهِ‏ لَمْ‏ يَعْقِدْ قَلْبَهُ عَلَى مَعْرِفَةٍ ثَابِتَةٍ يُبْصِرُهَا وَيَجِدُ حَقِيقَتَهَا فِي قَلْبِه‏)[5]، فصاحب البصيرة بينه وبين الله علاقة خاصة تثبت فيها عقيدته (بمعرفة ثابتة) وتكون حقيقة هذه المعرفة في قلبه واضحة.

 

الهدف من تحصيل البصيرة:

ولمعرفة الهدف نأتي بقصة على سبيل المثال:

قيل: جيءَ بفيل ضخم في غرفة مظلمة، فوضع رجل يده على رجل الفيل فقال: (هذا عامود)، ووضع رجل آخر يده على خرطومه فقال: (هذا عصا)، ووضع رجل ثالث يده على أذنه فقال: (هذه مروحة)، فلمّا أُضيئت الغرفة رأى الجميع الحقيقة كاملة.

ورد عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (إِنَّ‏ عَلَى‏ كُلِ‏ حَقٍ‏ حَقِيقَةً وَ عَلَى كُلِّ صَوَابٍ نُوراً)[6]، فالتوحيد له حقيقة والإيمان له حقيقة وكل حق له حقيقة، يبصرها جيدا من كانت بصيرته نافذة.

ولو لا هذه النعمة لما وصل المؤمن إلى هدفه ومبتغاه الأخروي، ورد عن السجاد (ع) في أحد أدعيته: (سَيِّدِي‏ لَوْ لَا نُورُكَ‏ عَمِيتُ‏ عَنِ‏ الدَّلِيلِ‏ وَ لَوْ لَا تَبْصِيرُكَ ضَلَلْتُ عَنِ السَّبِيل‏)[7]، فالضال لا يصل إلى مراده وتعبير الإمام (ع) بأنه بحاجة إلى تبصير من الله تعالى.

 

سؤال عابر

من هو صاحب البصيرة وعلى ماذا يحصل؟

عن أمير المؤمنين (ع): (فَإِنَّمَا الْبَصِيرُ مَنْ‏ سَمِعَ‏ وَتَفَكَّرَ وَنَظَرَ وَأَبْصَرَ وَانْتَفَعَ بِالْعِبَرِ وَسَلَكَ جَدَداً وَاضِحاً يَتَجَنَّبُ فِيهِ الصَّرْعَةَ فِي الْمَهْوَى وَيَتَنَكَّبُ طَرِيقَ الْعَمَى وَلَا يُعِينُ عَلَى فَسَادِ نَفْسِهِ).

وتعرف البصير بعض الصفات، أحدها أنه يدعوا إلى ربه، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي}[8]، وأخرى أنه مستبصر بالعقيدة الحقة في أهل البيت وضلالة من خالفهم، جاء في الزيارة الجامعة: (أُشْهِدُ اللَّهَ وَ أُشْهِدُكُمْ أَنِّي مُؤْمِنٌ بِكُمْ وَ بِمَا آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرٌ بِعَدُوِّكُمْ وَ بِمَا كَفَرْتُمْ بِهِ مُسْتَبْصِرٌ بِشَأْنِكُمْ‏ وَ بِضَلَالَةِ مَنْ خَالَفَكُم‏)[9].

ونجد الإجابة على السؤالين في رواية وصف المتقين لأمير المؤمنين (ع): (قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ الشَّهَوَاتِ، وَتَخَلَّى مِنَ الْهُمُومِ إِلَّا هَمّاً وَاحِداً، انْفَرَدَ بِهِ فَخَرَجَ[10] مِنْ صِفَةِ الْعَمَى وَمُشَارَكَةِ أَهْلِ الْهَوَى، وَصَارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ الْهُدَى وَمَغَالِيقِ أَبْوَابِ الرَّدَى، قَدْ أَبْصَرَ طَرِيقَهُ‏، وَسَلَكَ سَبِيلَهُ، وَعَرَفَ مَنَارَهُ، وَقَطَعَ غِمَارَهُ، وَاسْتَمْسَكَ مِنَ الْعُرَى بِأَوْثَقِهَا، وَمِنَ الْحِبَالِ بِأَمْتَنِهَا، فَهُوَ مِنَ الْيَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ، قَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي أَرْفَعِ الْأُمُور).

 

فضيلة من فضائل أمير المؤمنين (ع):

عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: (خرجت ذات يوم إلى ظهر الكوفة و بين يديّ قنبر، فقلت له: يا قنبر ترى‏ ما أرى‏؟) فقال: قد ضوّأ اللّه- عزّ و جلّ- لك يا أمير المؤمنين عمّا عمى عنه بصري‏. (فقلت: يا أصحابنا ترون ما أرى؟) فقالوا: لا، قد ضوّأ اللّه لك يا أمير المؤمنين عمّا عمى عنه أبصارنا[11].

والرواية طويلة أنه التقى بإبليس لعنه الله.

 

موضع البصيرة:

ذهب بعض علماء الروحانيات إلى أن موضع البصيرة هو الناصية التي تقع أسفل الجبهة ما بين العينين، وذهب البعض الآخر إلى أنها عينان في القلب، والرأي الغالب أنَّ في الناصية واحدة والتي في القلب أخرى ولكن الأخيرة مختصة بالشيعة كما هو في الأثر الشريف، فعن الصادق (ع): (إنما شيعتنا أصحاب‏ الأربعة أعين‏ عينين في الرأس، وعينين في القلب، ألا والخلائق كلهم كذلك، ألا إن الله عز وجل فتح أبصاركم، وأعمى أبصارهم‏)[12] وعنه (ع): (طُوبَى‏ لِمَنْ‏ جَعَلَ‏ بَصَرَهُ‏ فِي‏ قَلْبِه‏)[13]، وعن زين العابدين (ع) أيضا: (أَلَا إِنَ‏ لِلْعَبْدِ أَرْبَعَ‏ أَعْيُنٍ‏ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا أَمْرَ دِينِهِ وَ دُنْيَاهُ وَ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا أَمْرَ آخِرَتِهِ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْراً فَتَحَ لَهُ الْعَيْنَيْنِ اللَّتَيْنِ فِي قَلْبِهِ فَأَبْصَرَ بِهِمَا الْغَيْبَ فِي أَمْرِ آخِرَتِهِ وَ إِذَا أَرَادَ بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ تَرَكَ الْقَلْبَ بِمَا فِيهِ)[14].

 

فتح مؤقت:

يحصل لكثير منا فتح للبصيرة، يتكرم بها الله تعالى على عبده، ولكننا نغفل عنها لشدة التفاتنا للأمور المادية، وفي هذا المعنى ورد عن رسول الله (ص) أنه قال: (إنّ‏ لربّكم‏ في‏ أيّام‏ دهركم‏ نفحات‏، ألا فتعرّضوا لها)[15].

ومن القصص الواردة في هذا المجال، بعض أصحاب الأئمة (ع)، فمثلا رواية أبو بصير للباقر (ع): قال أبو بصير: ما أكثر الحجيج‏ وأعظم الضجيج،‏ قال (ع): (بل ما أكثر الضجيج و أقل الحجيج، أ تحب أن تعلم صدق ما أقوله و تراه عيانا؟) فمسح يده‏ على عينيه ودعا بدعوات فعاد بصيرا، قال (ع): انظر يا أبا بصير الى الحجيج، قال: فنظرت فاذا أكثر الناس قردة وخنازير والمؤمن بينهم كالكوكب اللامع في الظلماء، فقال أبو بصير: صدقت يا مولاي، ما أقل الحجيج وأكثر الضجيج، ثم دعا (ع) بدعوات فعاد ضريرا)[16].

وقصة الإمام الهادي (ع) مع صالح بن سعيد عندما دخل عليه في خان الصعاليك واستنكاره لما فعله القوم في الإمام، فكشف الإمام بصيرة ابن سعيد وأراه رياض الجنان حول الإمام ثم أرجعه.

عَنْ صَالِحِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ (ع)، فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فِي كُلِّ الْأُمُورِ أَرَادُوا إِطْفَاءَ نُورِكَ وَالتَّقْصِيرَ بِكَ، حَتَّى‏ أَنْزَلُوكَ‏ هَذَا الْخَانَ‏ الْأَشْنَعَ خَانَ الصَّعَالِيكِ، فَقَالَ (ع): (هَاهُنَا أَنْتَ يَا ابْنَ سَعِيدٍ)، ثُمَّ أَوْمَأَ بِيَدِهِ وَقَالَ: (انْظُرْ)، فَنَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَوْضَاتٍ آنِقَاتٍ، وَرَوْضَاتٍ بَاسِرَاتٍ‏ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ عَطِرَاتٌ، وَوِلْدَانٌ كَأَنَّهُنَّ اللُّؤْلُؤُ الْمَكْنُونُ، وَأَطْيَارٌ وَظِبَاءٌ، وَأَنْهَارٌ تَفُورُ، فَحَارَ بَصَرِي وَحَسَرَتْ عَيْنِي فَقَالَ: (حَيْثُ كُنَّا فَهَذَا لَنَا عَتِيدٌ لَسْنَا فِي خَانِ الصَّعَالِيكِ)[17].

 

خاتمة في القلب الأعمى:

قال تعالى في محكم كتابه الكريم: {وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً}[18]، فمآل القلب الأعمى إلى جهنم وبئس المصير، ولكن لماذا تعمى القلوب؟

في النبوي عن رسول الله (ص): (الطَّابِعُ مُعَلَّقٌ بِقَائِمَةِ الْعَرْشِ، فَإِذَا اشْتَكَتِ الرَّحِمُ، وَعُمِلَ بِالْمَعَاصِي، وَاجْتُرِئَ عَلَى اللَّهِ، بَعَثَ اللَّهُ الطَّابِعَ، فَيَطْبَعَ عَلَى قَلْبِهِ فَلا يَعْقِلُ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا)، يبدو من الرواية أن الطابع ملك، يرسله الله ليطبع على قلب العبد إذا ارتكب الموارد الثلاثة في الرواية.

وأثر المعاصي على القلب لا يخفى على مطلع، فقد قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[19]، بل قال في الآية التي بعدها: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}[20]، نستجير بالله تعالى من عمى القلوب ومن الصدأ الحاجب للمعارف الحقة.

 

 

فواز سرحان

النجف الأشرف

ليلة 5 رجب 1437

13 ابريل 2016

 

[1] سورة الحج: 46.

[2] بحار الأنوار ج66 ص394.

[3] الكافي ج1 ص43، باب من عمل بغير علم.

[4] بحار الأنوار ج2 ص24.

[5] الكافي ج1 ص18.

[6] الكافي ج2 ص54، باب حقيقة الإيمان واليقين.

[7] بحار الأنوار ج91 ص161.

[8] سورة يوسف: 108.

[9] من لا يحضره الفقيه ج2 ص614.

[10] الإنتقال من السؤال الأول (من هو؟) إلى السؤال الثاني (على ماذا يحصل؟).

[11] مدينة المعاجر ج1 ص 121 والبحار ج30 ص274.

[12] البرهان ج3 ص372.

[13] تحف العقول ص305.

[14] الخصال ج1ص240.

[15] الكافي ج7 ص650.

[16] مدينة المعاجز ج5 ص51.

[17] الكافي ج1 ص498.

[18] سورة الإسراء: 72.

[19] سورة المطففين: 14.

[20] سورة المطففين: 15.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *