أصالة العرف

الميرزا الشيخ عباس العصفور
Latest posts by الميرزا الشيخ عباس العصفور (see all)

بسم الله الرحمان الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين..

أصالة العرف

قد مر سابقا بأن بعض المذاهب الإسلامية تذهب لأصالة العرف لفظا أو في حال الإطلاق اللفظي، وقد جعلوه حاكما في كثير من الموارد عبر قواعد فقهية معينة قد فعلوها عندهم، ولكن الأصول التي ادعوها تختلف عن مدارك القواعد وقد تتعارض مع الشريعة في كثير من أصولها.

ولو تصفحنا بحوثهم المختلفة من الروايات التي أسندوها لوجدناهم ينزلون منزلة تسالم المسلمين لمنزلة الإجماع في دليليته وحجيته رغم اختلاف ذلك عن تسالم العقلاء القهري والظرفي في أحكامهم العرفية الخاصة، ولا يمكن تصويب جميع تصرفات المسلمين وإن تسالموا على أمر ليكون شريعة، فالقانون الوضعي عموما والشرائع المخترعة تكون عادة هي الوليدة لمثل هكذا سياق أو مدرك ولا يمكن أن تكون الشريعة السماوية السمحاء المنزلة من رب الأرباب مسرحا لمثل هذه التسالمات وإلا لكان العرف المصطنع عبر الإعلام وفرض القناعات مصدرا يؤخذ منه الدين والتشريع.

كما لا يمكن حمل عمل المسلم على الصحة في أصل التشريع، بل يحرم ذلك عليه ويعد مانعا، فأعمال المسلمين محمولة على الصحة في أحكامها الفرعية والفقهية على نحو تصويب التصرفات مما له لزوم في تسهيل حياة الناس وحسن الظن بهم، أما في الأصول والتشريع فالمصدر التشريعي واضح عبر مظانه المجعولة شرعا، ولا يمكن للتصرفات الشخصية والأحكام الفرعية أن تكون أصلا لتجعل كل تصرف يصدر من مسلم أصلا تشريعيا معينا من الشارع حيث تتسع رقعة التصويب لمديات لم يقل بها أحد!

وقد جنح البعض منهم لجعل العرف أصلا في ألفاظ الخطاب الشرعي، وحملوا كل ما يصدر من الشارع لمعناه العرفي، وقد ناقشنا سابقا الخلاف بين المعنى في العرف الخاص والعرف العام، ولكن ماذا لو جعل الشارع حدودا بقرائن منفصلة أو متصلة وحدد ذلك المعنى بحسب مقتضى الحال؟ ماذا لو كان المعنى العرفي معارضا للمعنى الشرعي وكان الشارع مانعا له؟!

إن من الألفاظ المتداولة ما هو محدد شرعا وما هو متروك للعرف ولم يتعرض الشارع لتعريفه، ولكن الشارع الأقدس قد جعل حدودا لماهيات موضوعاته وحسم صورتها بما يتناوله متعلق الحكم الشرعي، فالتحديد اللفظي العرفي لا يحدد الموضوع بقدر ما ينصرف إلى معانيه عبر مدركاته لمراد الشارع المحدد ومعناه، والتشخيص الموضوعي مداره الحمل الأولي والشايع .

نعم، ينصرف الشارع للمعنى العرفي إذا ما أخذت الألفاظ مأخذها في نزاعات الناس لتحديد النوع أو القيمة أو أي أمر تنصرف صورته الظرفية لواقع حاضر عند الناس، فالاتفاق على الدنانير تنصرف لعملة متعارفة في البلد، والاتفاق على المكيل والموزون بحسب ما هو متسالم في البلد عرفا …الخ، وهذا الانصراف هو من سيرة العقلاء والشارع سيدهم، كما وأن الناس تتعامل بالمتعارف عادة فيكون العرف قرينة لمرادهم ودعاواهم وألفاظهم المطلقة حيث تحمل على أصالة الظهور وحجية التبادر.

ومن هنا نعرف أن العرف لا يساهم في موارد التأسيس نظرا لكون تشخيصاته ظرفية ومقيدة وملزمة لمن تسالموا وتعارفوا عليها وليست ملزمة لجميع المسلمين حتى تصلح لأن تكون أصولا تشريعية أو وظيفة عملية في حال الشك، فكاشفيتها تكون على نحو ملزم تكليفا ووضعا، فلو تأملنا مثلا حد الماء المطلق وهو ما يستحق إطلاق اسم الماء عليه عرفا، لوجدنا المياه الملوثة بالطين قد تكون ماءا مطلقا في بلد وتكون مضافا في آخر باعتبار امتزاج الطين فيه قياسا بنظافة الماء فيها، وكذلك الاتفاق على عملة مطلقا أو كيلا أو عددا ينصرف تمييزه لما تسالم عليه أهل البلد ويكون ملزما لكبرويات متعارفة في التزاماتهم حيث أن هذا هو السياق المناسب لتسالمهم واتفاقهم وتعارفهم.

أما الوظيفة الشرعية في حال الشك والأصول العملية الأربعة فسياقها غير هذا السياق، لأنها تختص بالمجعول الشرعي وهي سياقات عقلية لإحراز الواقع أو إثباته، أما العرف فدوره تشخيصي وإلزامي خاص، قد نستصحب معنى عرفي سابق أو ننتقل للاحق ولكن ليس بالطريق العرفي بل بالوظيفة الشرعية..

الحمد لله رب العالمين

 

عباس العصفور

النجف الأشرف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *