هل العادة محكّمة دائما؟

الميرزا الشيخ عباس العصفور
Latest posts by الميرزا الشيخ عباس العصفور (see all)

بسم الله الرحمان الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين..

قد مر علينا فيما سبق من آراء المذاهب حول الاعتقاد بأصالة العرف عند البعض منهم، وقد مر في ذلك ما مر من كون الأصل وظيفة شرعية حين الشك وأن التأصيل يكون بقانون وحكم العقل مع جعل شرعي واضح يستدعي الفراغ اليقيني.

ولكن الذي لفت الانتباه بشكل خاص اعتبار عادات العرف وتقاليدها محكمة على نحو مطلق حيث قالوا بأن (العادة محكّمة) وجعلوها أصلا من أصولهم وقاعدة يرجعون إليها في حال الشك والتقنين، وقد مر في المقالات السابقة النقاش حول عادية العرف أو طبعيته.

في حال التعارض بين العادة والشريعة لابد من رجحان حكم الشارع وقد كانت هناك عادات وتقاليد كثيرة قد أمضاها الشارع في المجتمعات، وهذا الإمضاء كان غالبا لالتقائها بالأطر الشرعية الخاصة وكونها مطابقة للمعايير الشرعية أو لتسهيل أمور الناس بشكل عام.

فالإمضاء الخاص مسألة فرعية يراعى فيها ظرف مركب من عدة أمور قد تقع مجتمعة أو منفردة، فيكون الحكم المتمخض منها خاصا مقيدا بشرط الظرف الخاص، كالقدرة والعقل وشروط المكلف التي تتسبب بالتسهيل للمكلف به، وعلى هذا يكون الإمضاء آنيا مشروطا ومقيدا، ومثل هذه التنازلات الشرعية المتدرجة مع الظرف حتى القدرة قد تصل لدرجة سقوط التكليف أو استثناءاته كالضرورات وأحكامها.

بقي الإمضاء بشكل عام، وهو مشروط بعدم المعارضة مع المسلمات والأحكام الشرعية بأي وجه من الوجوه، وقد استدل بعض من مذاهب المسلمين بأن الشريعة لم تمنع العمل ببعض الحدود الشرعية وأٌقرتها رغم كونها عرفية ، متناسين بذلك منع الشارع الأقدس لكثير من العرفيات عند العرب في كثير من مفاصل الحياة كحقوق النساء وغيرها من التشريعات التي حرمت الربا رغم تعارف الناس وتسالمهم عليه.

إن كثيرا من الجعليات الشرعية نسخت أعرافا عند الأمم بسبب حرمتها أو وراثتها من أديان وعقائد منحرفة كما وقد حرمت الشريعة كثيرا من العرفيات بلفظ صريح ورفضت عادتها حتى أٌقلع الناس عنها وهجروها تحت مظلة الشارع لنظم حياتهم ومعايشهم بما يتناسب مع الشارع الأقدس للاحتكام به.

ومن هنا يتبين للمتابع والمتتبع أن هذه العادات لم يمضها الشارع كليا بشكل عام دون معارض، وإنما لإمضائه شروط يجب توافرها لتُمضَى هذه العادات، فما وافق منها معايير الشريعة تم إمضاؤه وما خالف حرم العمل به فيكون الرجوع في العادات هذه للشارع كباقي التصرفات ولا يمكن تحكيمها على الشارع .

وهناك من يرى إمكانية إمضائها لمسانختها مع الشرع وقد مر أن منها ما هو مقبول ومنها ما هو مرفوض شرعا ولا يمكن العمل به، فلا مسانخة للمتعارضين بجانب أنها ليست عقلية بل قد تكون ظروفا بيئية قاهرة أجبرت العقلاء للاعتراف بها كالقوانين الوضعية التي لا علاقة لها بتنظيم حياة البشر فتكون الناس مجبورة للعمل بها خوفا من العقوبات والغرامات.

إن ادعاء التكلف على العباد والمشقة التي قد يتكبدها العبد إذا لم يتم تحكيم العادات نظر إليه الشارع، وقد تكلف سياق الامضاء الخاص بمراعاة الحالات الخاصة، ولكن الشارع الأقدس إن حكم بحكم عام فيجب العمل به ولا تكلف أكثر من ترك التكليف، فلا يمكن تصور هذا التكلف المدعى لمثل هذا الظرف، فما اختلف الشارع مع العرف يجب ترجيح حكم الشارع حال التعارض بين الأمرين.

وادعاء أن هذا مما قد يتسبب باختلال النظم المتعارفة بين الناس وحصول الفوضى مردود بأن العرف لم يكن ليصلح عبر بعض تقنيناته الغير منتظمة لتنظيم حياة البشر في القانون الوضعي فضلا عن الشرعي، وإن كان القانون الوضعي يمضي الأعراف إذا كانت من تقاليد دولة كاملة أو شعبا كاملة مراعاة لمشاعر الشعوب وتلبية لرضاها، و لكن الشارع يمضي منه ما يمكن أن يكون تنظيميا و يرفض ما يكون تدميريا، ولم تكن الشريعة الغراء في حال من الأحوال سببا لاختلال النظام، لأنها هي النظام.

لهذا لا يمكن تحكيم العادات بشكل عام لاختلال بعضها ورفضها من قبل الشارع بسبب موانع الجعل التي لا يمكن أن تمضيها بحال.

 

والحمد لله رب العالمين

 

ميرزا عباس العصفور

النجف الأشرف

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *