مفهوم الحرية

الميرزا الشيخ عباس العصفور
Latest posts by الميرزا الشيخ عباس العصفور (see all)

بسم الله الرحمان الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين..

الحرية كما ورد سابقا هو مفهوم عام له جهات متعددة تختلف باختلاف ملاكاتها، فكل شخص قد يتأدلج ويترتب بحسب مفهومه العام للحرية التي قد يتلقنها أو يتعلمها أو يزنها بعقله حسب ييرة العقلاء.
فعند أهل اللغة معنى الحرية _ مصدر حر_ هو الخلوص من الشوائب، كما ولها استعمالات متعددة تعتبر من التقييم الأخلاقي في صفات الناس ، فالحر من الناس هو صاحب الفضائل والحرة كذلك ، تعد من ألفاظ المدح في عرف اللغويين.
وبنفس معنى الخلوص والتخلص كفت المعاجم العلمية المختلفة في مواضيعها على تعريف الحرية، ففي السياسة أخذت معنى التخلص من هيمنة الأنظمة، وفي الاقتصاد التخلص من قوانين اقتصادية في نظام ما، حتى الملاحة البحرية الحرة أخذت معنى عدم فرض نظام معرقل للحركة عليها في المياه الإقليمية… ودواليك.

فالمتتبع والمستقريء لاستعمالات هذه الكلمة لينتزع منها مفهوما جامعا قد يتوقف عند علماء الإجتماع والفلاسفة والكلاميين والمتشرعة، لأن التخلص العام من كل القيود و كل المسؤوليات قبيح عند أهل العقل وله تبعات وضحايا ،والنظر والعقل لا يطمئن للنتائج القبيحة بشكل عام..

فمن ناحية اجتماعية قسموا الحرية إلى:
حرية فردية: وهي حرية الفرد في تصرفاته وأقواله وعقيدته..
حرية الجماعة: وهي حرية المجموعة في التصرفات والعقائد والأقوال وما يخصها كمجموعة متفقة على شيء ما تعتقد وتقتنع به.
وعلى هذا فيجب أن تكون الحرية الشخصية على قسمين ، حرية الفرد بما في شخصيته الخاصة الداخلية، وحرية برؤية الجماعة أو اتفاقهم وفي هذه الصورة يجب أن تكون هذه الجماعة متشابهة عقلا في التفكير وتنطبق مع بعضها البعض تماما ، وهذا لا يمكن تخيل وجوده بهذه الدقة عقلا، إلا بانقياد الفرد في بعض الأمور للجماعة من أجل هدف خارج عن معنى الحرية أصلا!

ومن ناحية فلسفية:
السفسطائيون قسموها بحسب الشعور بها في حالة الإنسان النفسية والفردية والشخصية، وقد قسموها دينيا يحرية الاعتقاد وطبيعيا بالحرية السياسية وسفليا بحرية الأخلاق، وهكذا فهم يرون أن الحرية هي الشعور النفسي بما يتمتع به الشخص من الإحساس بالحرية وأنه غير مقيد..
أما الأبيقوريون فقد رأوا الحرية للعقل من الأوهام والمخاوف، فكلما تحرر الإنسان منها كان حرا بعقله وتفكيره..
الأرسطيون ركزوا على أن الحرية هي بناء شخصية الفرد الداخلية والخارجية، فالداخلية تخص ذاته، والخارجية تخص مجموعته، ولكن اعتبر الأخلاق مسؤولية خاصة..

فكما تلاحظون بأن الفلاسفة حملوا الحرية على موضوع فردي وفق ضوابط شخصية خاصة، والحال أن مثل هذا الحمل يجعل صعوبة في تحديد قوانين الحرية إن حملت على اتجاهات القضايا الشخصية..
فلو نظرنا للوجوديين الذين يطالبون بحرية الفرد المطلقة، فكيف سيوفقون لبناء مجتمع مجموعي من عدة توجهات فردية شخصية لكل شخص غير موجهة أبدا لأي جهة، ولو نظرت لألفاظ فلاسفتهم لوجدت نوعا من التنمر في الألفاظ مثل: لا أحد له سلطة علينا لا علاقة لأي شيء لإخضاعنا … وأمثالها، على إلرغم من أن قوانين العلوم الطبيعية تخضعهم بإذعان لنتائجها، وقانون الحياة والموت والسياسة يخضعهم أيضا.. لذلك ستجد تيارهم مليء بالأدبيات نظرا لكونهم قد بدأوا كحركة أدبية ثم تحولت لفلسفية قبل قرن، ولكن الواقع يتناقص مع أطروحات الأدباء كثيرا.
والمضحك المبكي كلام التنويريين الذين قالوا : خروج الإنسان عن سباته العقلي الذي وضع نفسه فيه باستخدام العقل، وكأن عموم العقلاء ومسلماتهم وتجاربياتهم كلها قيود وليست منجزات، وكأن غيرهم ليسوا بعقلاء، ويرد عليهم نفس إشكال الوجوديين وزيادة أنهم يرفضون حتى سيرة العقلاء المتسالم عليها وعمومات بديهية عقلية، فكيف لحرية أن تكون بمثل هذا الظرف إلا من الفوضى..

أما التيارات المختلفة كاللبرالية والعلمانية فنجد فيها:
الليبراليون الذين لم يتسالموا على تعريف محدد للبرالية حتى اليوم قد يكون بسبب تلك الحرية المتصادمة في مفهومها ضمن غزل النسيج الاجتماعي، فهم نادوا بنزعة حرية الفرد والمؤسسات الاجتماعية لتكون خادمة لهذا الفرد فتصادمت نداءاتهم بالديموقراطية حيث لا يمكن إخضاع هذا الفرد وشخصيته الخاصة لإرادة الأغلبية! وبهذا قد يتعذر الاتفاق الاجتماعي كثيرا وتتعثر القرارات الجمعية والمنظومية، ولكن الغريب بعد هذا اقتنعوا بالليبرالية الأوتوقراطية التي تجعل الحاكم حرا في التصرف بأمور الناس!
العلمانيون اتبعوا عكس ذلك وقالوا بأن اتباعهم للأكثرية تضحية بحريتهم من أجل إحقاق نظام عام تسوده المحبة عبر التنازلات لتحقيق المساواة، وكأن المساواة دائما صحيحة وعصا سحرية تحقق العصمة في كل فكرة عبر الواقع الخارجي.. وقد يلاحظ المنصفون التشويش في معنى الحرية المطلقة المدعاة وبين التضحية بها..

أما المتشرعة والمتدينون فهم ينظرون لملاك ومدارك القضايا لتحقيق المصلحة العامة للمجتمع لتنعكس على الفرد بعدها كخلية فيها حرية محدودة لكل فرد بالحقوق والواجبات والمسؤوليات التي تكون منظومة أمان وراحة للآخرين.

ومن أمثلة ذلك خطابات كثيرة تتنوع بتنوع حال العبادات والمعاملات وحقوق النفس وحقوق العباد والمجتمعات …
ومن أمثلة مفهوم الحرية الشخصية بين أهل الدين وغيرهم:
روي أنه كان الإمام الكاظم ( عليه السلام ) يمشي في الأزقّة يوماً فسمع غناءً ماجناً ينبعث من أحد البيوت . وفي الأثناء خرجتْ فتاة ، فتوقّف الإمام وسلّم عليها ثم سألها قائلاً : صاحب البيت حرٌّ أم عبد ؟ . فقالت متعجّبة : بل حرّ .فقال الإمام : صدقتِ لو كان عبداً لخاف سيّده .عادت الفتاة وسألها صاحب البيت – واسمه بشر – عن سبب تأخّرها فقالت : مرّ رجلٌ وسألني : صاحب البيت حرّ أم عبد .فقال بشر : وبماذا أجبتيه ؟قالت الفتاة : قلت له : حرّ ، فقال لي : صدقتِ لو كان عبداً لخاف سيّده .أطرق بشر مفكراً ، وشعر بالكلمات تهزّ أعماقه ، فانطلق خلف الإمام حافياً يعلن توبته وعودته إلى أحضان الدين والإيمان . ومن ذلك اليوم دُعي ببشر الحافي واشتهر بين الناس بزهده وعبادته .

والمجموعي: هو حماية المجتمع من أهواء تلاعبات أهل الحرية المطلقة كي لا يفسدوه تلبة لطلباتهم النفسية الشخصية الخاصة دون مراعاة المجتمعات وأمانها، وإلزامهم باحترام حريات غيرهم والنسيج الإجتماعي العام..

عباس العصفور
النجف الأشرف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *