رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

بسم الله الرحمن الرحيم{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة المؤبدة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

وردت العديد من الأدعية في سورة البقرة ومنها هذه الآية المباركة التي دلت بمعانيها على الإخلاص ورجاء القبول، وقبل الخوض بمعاني الآية الكريمة لا بد من تعريف سورة البقرة و هي : أول سورة نزلت في المدينة المنورة، والثانية حسب ترتيبها في القرآن الكريم، وعدد آياتها مائتان وست وثمانون آية، ولها أسماء وصفات أطلقت عليها منها:
الزهراوان ولهذه الصفة حديث عن النبي صلى الله عليه وآله قال:
اقْرَؤُوا القُرآنَ؛ فإنَّه يأتي شافِعًا لأصحابِه، اقْرَؤُوا الزَّهْراوَينِ: البَقَرةَ وآلَ عِمرانَ؛ فإنَّهما يأتيانِ يَومَ القيامةِ كأنَّهما غَمامَتانِ أو غَيايَتانِ أو فِرقانِ من طَيرٍ صَوافَّ تُحاجَّانِ عن صاحِبِهما، اقْرَؤُوا البَقَرةَ؛ فإنَّ أخذَها بَرَكةٌ، وتَرْكَها حَسرَةٌ، ولا تَستطيعُها البَطَلَةُ.
وسنام القرآن: لاعتبارها أطول سورة في القرآن،
وهي فسطاط القرآن: لكثرة الأحكام والمواعظ فيها، ولعظمها.
واسمها المعروف في المصحف الشريف سورة البقرة وذلك لحديثها عن قصة البقرة وكشف القاتل.
ومن فضلها:
حافظة وكافية للنفس من الشيطان سواء كان من الجن أو الإنس.
وتطرد الشياطين من البيت.
وتشفع لمن يقرأها يوم القيامة لما فيها من بركة.

ففي هذه السورة الآية المباركة التي تدل في معانيها على دعاء رسل الرحمن في تقبل عملهم لوجهه الكريم، وتبين اختلاف المفسرون والمؤرخون في تاريخ الكعبة المشرفة:
هل كانت قبل ابراهيم عليه السلام ثم عرض لها الخراب، فجددها ابراهيم عليه السلام هو وولده إسماعيل بأمر الله تعالى؟
ام أن تاريخ بنائها وانشائها يبتدئ بابراهيم عليه السلام؟
ذهب أكثر أهل التفسير والتاريخ من المسلمين إلى أنها أسبق بكثير من إبراهيم عليه السلام، مستندين على بعض القرائن من الآيات والروايات، فقوله تعالى في سورة إبراهيم: {رَّبَّنَآ إِنِّىٓ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ} وهذه الآية تدل على أن بيت الكعبة كان له نوع من الوجود حين جاء ابراهيم مع زوجته وابنه إلى مكة.
وفي خطبة للإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام وهي المسماة بالقاصعة يقول عليه السلام: أَلاَ تَرَوْنَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ إِخْتَبَرَ الاْوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ إِلَى الاْخَرِينَ مِنْ هذَا الْعَالَم بِأَحْجَار … فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ … ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ(عليه السلام) وَوَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ.

وأما البعض الآخر قالوا: بل ولدت الكعبة على يد إبراهيم عليه السلام، ودلالة ذلك دعائهما في الآية الكريمة { ربنا تقبل منا} وأن يثيبهما الله على هذا العمل، لأن معنى القبول عند الله هو الثواب على العمل الذي يقبله، كما أن عدم الثواب على العمل معناه رده ورفضه، ولا تفكيك بموجب كرم الله وجوده وليس من شك أن الله قد قبل دعاءهما، وأجزل لهما الثواب على هذه الطاعة لأنه الذي فتح باب الدعاء.
وروي عن خالد بن عُرعُرة قال: أَنَّ رَجُلًا قَامَ إلَى الامام عَلِيّ عليه السلام فَقَالَ : أَلَا تُخْبِرنِي عَنْ الْبَيْت ؟ أَهُوَ أَوَّل بَيْت وُضِعَ فِي الْأَرْض ؟ فَقَالَ عليه السلام: لَا , وَلَكِنْ هُوَ أَوَّل بَيْت وُضِعَ فِي الْبَرَكَة مَقَام إبْرَاهِيم , وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا , وَإِنْ شِئْت أَنْبَأْتُك كَيْف بُنِيَ ; إنَّ اللَّه أَوْحَى إلَى إبْرَاهِيم أَنْ ابْنِ لِي بَيْتًا فِي الْأَرْض , قَالَ : فَضَاقَ إبْرَاهِيم بِذَلِكَ ذَرْعًا , فَأَرْسَلَ اللَّه السَّكِينَة وَهَى رِيح خُجُوج , وَلَهَا رَأْسَانِ , فَأَتْبَع أَحَدهمَا صَاحِبه حَتَّى انْتَهَتْ إلَى مَكَّة , فَتَطَوَّتْ عَلَى مَوْضِع الْبَيْت كَتَطَوِّي الْحَجَفَة , وَأَمَرَ إبْرَاهِيم أَنْ يَبْنِي حَيْثُ تَسْتَقِرّ السَّكِينَة . فَبَنَى إبْرَاهِيم وَبَقِيَ حَجَر , فَذَهَبَ الْغُلَام يَبْغِي شَيْئًا , فَقَالَ إبْرَاهِيم : لَا , ابْغِ حَجَرًا كَمَا آمُرك ! قَالَ : فَانْطَلَقَ الْغُلَام يَلْتَمِس لَهُ حَجَرًا , فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ قَدْ رَكَّبَ الْحَجَر الْأَسْوَد فِي مَكَانه فَقَالَ : يَا أَبَت مَنْ أَتَاك بِهَذَا الْحَجَر ؟ قَالَ : أَتَانِي بِهِ مَنْ لَمْ يَتَّكِل عَلَى بَنَاتك جَاءَ بِهِ جِبْرِيل مِنْ السَّمَاء.
ومهما يكن، فنحن غير مسؤولين أمام الله سبحانه ولا مكلفين بمعرفة تاريخ بناء الكعبة، وزمن انشائها وولادتها، نحن غير مسؤولين عن شئ من هذه الأشياء ولا مكلفين بمعرفتها وجوباً ولا استحباباً ولا عقلاً ولا شرعاً، إنما الشيء الذي نسأل عنه ونطالب به فيما يعود إلى الكعبة ، هو قصدها للحج والعمرة واحترامها وتقديسها، والمحافظة عليها والدفاع عنها وتعظيم بيت الله تعظيم لله، روي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: وفرض عليكم حج بيته الحرام الذي جعله قبلة للأنام يردونه ورود الأنعام، ويألهون إليه ولوه الحمام، جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزته، واختار من خلقه سماعا أجابوا إليه دعوته، وصدقوا كلمته، ووقفوا مواقف أنبيائه، وتشبهوا بملائكته المطيفين بعرشه، يحرزون الأرباح في متجر عبادته، ويتبادرون عنده موعد مغفرته، جعله سبحانه وتعالى للإسلام علما، وللعائذين حرم.
وهذه الأيام المباركة التي يقبل الله فيها الدعاء ويفتح في هذا الشهر الفضيل أبواب الاستجابة، روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال: لمَّا كان أوَّل ليلة من شهر رمضان قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيُّها الناس، قد كفاكُمُ اللهُ عدوَّكُم مِنَ الجّنِّ والإنس، وَوَعَدَكُمُ الإِجابةَ وقال: أُدعوني أَستَجِب لَكُم، أَلا وَقَد وَكَّل الله سبحانه وتعالى بكلِّ شَيْطانٍ مَريد سبعةً منَ الملائكة، فَلَيس بمَحلولٍ حتى يَنْقَضِي شهرُ رمضان إلا وأبوابُ السماءِ مفتَّحةٌ من أوَّلِ ليّلةٍ منه الى آخر ليّلةٍ منه، ألا والدُّعاءُ فيهِ مقبول، حتى إذا كان أول ليلة من العَشْرِ قامَ فَحَمَدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيه وقال مثل ذلك، ثم قام وشّمَّر وشدَّ المِئزَر وبَرَز من بيته واعتكف وأحيا الليل كُله، وكان يغتسل كل ليلة منه بين العشائين.
اذا فمقام الدعاء والسؤال من الله سبحانه فالسلطة فيها للحقائق، والغرض متعلق هناك بحق الأمر، وصريح القرب والزلفى ولا هوى للأنبياء في الظاهر من جهة ما هو ظاهر ولا هوى لإبراهيم (عليه السلام) في ذريته ولوكان له هوى لبدأ فيه لأبيه قبل ذريته ولم يتبرأ منه لما تبين أنه عدو لله، ولم يقل في ما حكى الله من دعائه: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء: 87 – 89] ، ولم يقل {واجعل لي لسان صدق في الآخرين}( الشعراء – 84)، بل اكتفى بلسان ذكر في الآخرين إلى غير ذلك.
فليس الإسلام الذي سأله لذريته إلا حقيقة الإسلام، وفي قوله تعالى: {أمة مسلمة لك}، إشارة إلى ذلك فلو كان المراد مجرد صدق اسم الإسلام على الذرية لقيل: أمة مسلمة، وحذف قوله: لك.

قوله تعالى: {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم} إلخ دعوة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: أنا دعوة إبراهيم.

وتضمنت هذه الآية الكثير من الفوائد الجليلة منها :
1- أهمية القبول حيث إن مدار الأعمال الصالحة عليه، وذلك يقوم على الإخلاص للَّه تعالى، والاتباع لما جاء به الشرع المطهر .
2- دلّت الآية: أنّ على العبد ملازمة سؤال اللَّه قبول أعماله بعد أدائه لها، ومنها الدعاء، فقد كان هذا من هدي المصطفى : فإنه كان يستغفر ثلاثاً بعد الصلاة، وكان يقول بعد صلاة الصبح : (اللّهمَّ إنّي أسألك علماً نافعاً، ‏ورزقاً طيباً، وعملاً مُتقبّلاً)، وكان يقول : (ربّ تقبّل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي)، وكان يستعيذ من عمل لا يُرفع : (اللّهمّ إنّي أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن عمل لا يُرفع).
3- ينبغي للعبد أن يكون في حال عبادته لربه ودعائه، ‏خائفاً راجياً، كجناحي الطائر، فلا يغلّب الخوف، فيقع في القنوط، ولا يغلب الرجاء، ‏فيقع في الغرور، والأمن من مكر اللَّه تعالى .
4- التوسّل إلى اللَّه تعالى بأسمائه وصفاته ما يناسب المطلوب والسؤال؛ فإن (السميع) مناسب في سماع دعائهما، و(العليم) مناسب للعلم بنياتهما، وصدق تضرعهما، وكذلك (التواب الرحيم) .
5- ملازمة التواضع والإخبات للَّه تعالى في حال القيام بطاعته ولو بأجلّ العبادات والمقامات .
6- أن الدعاء ملجأ ومقصد كل الأنبياء والمرسلين، ‏وأن العبد لا غنى له عنه في كل أحواله الشرعية والدنيوية .
7- طرد الإعجاب بالنفس ، وعدم الإدلال على اللَّه تعالى بما قام من العمل ، فإنّ ذلك مفسد للعمل .
8- أهمية سؤال اللَّه تبارك وتعالى الثبات على الإسلام ، (وهو يشمل على الاستسلام للَّه تعالى ظاهراً و باطناً ).
9- ((أنه ينبغي للإنسان أن يشمل ذريته في الدعاء، ‏لأنّ الذرية الصالحة من آثار الإنسان الصالحة؛ لقوله تعالى : ” وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ” .
10- (شدة افتقار الإنسان إلى ربه تعالى؛ حيث كرر كلمة (ربنا)، وأنه بحاجة إلى ربوبيته اللَّه تعالى الخاصة التي تقتضي عناية خاصة).

وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *