رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا

الحلقة الرابعة

بسم الله الرحمن الرحيم

{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة المؤبدة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

القرآن الكريم له فضل عظيم، ومنزلة كبيرة، وقد خص الله تعالى من القرآن الكريم سوراً وآيات لها مزية فضل، ومن ذلك الآية الأخيرة من سورة البقرة، وفيها عبر و عظات بليغة، فينبغي تدبرها وأخذ العظة والعبرة منها، والعمل بها وفق مراد الله عز وجل.

ففي هذه الآية الكريمة كرر لفظ الرب من خلال الدعاء أربع مرات لبعث صفة الرحمة بالإيماء والتلويح إلى صفة العبودية، فإن ذكر الربوبية يخطر بالبال صفة العبودية والمذلة.
ويعرف فضل وأهمية هذه الآية من خلال الأحاديث المباركة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام ، روي عَنِ النَّبِیِّ (صلی الله علیه و آله) أَنَّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَی لَهُ أَعْطَیْتُ لَك وَ لِأُمَّتِك کَنْزاً مِنْ کُنُوزِ عَرْشِی فَاتِحَهًَْ الْکِتَابِ وَ خَاتِمَهًَْ سُورَهًِْ الْبَقَرَهًْ.
في ذلك خير دلالة واضحة عن فضل سورة البقرة وما فيها من آيات مباركة واجماع المفسرين على فضلها ماروي عن أحمد في مسنده من حديث أبي ذر رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وآله وسلم قال: “أُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ البَقَرةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ العَرْشِ لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي.

قوله: ﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ أي إن تركنا فرضاً على جهة النسيان، أو فعلنا حراماً كذلك، ﴿ أَخْطَأْنَا ﴾: أي الصواب، جهلاً منا بوجهه الشرعي، وماروى عن الشيخ الصدوق بسند صحيح في « الخصال » عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : رفع عن اُمّتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة.

وقوله: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ أي: لا تكلفنا من الأعمال الشاقة، وإن أطقناها كما شرعته للأمم الماضية من قبلنا من الأغلال، والآصار التي كانت عليهم التي بعثت نبيك محمداً صلى اللهُ عليه وآله وسلم نبي الرحمة بوضعه في شرعه الذي أرسلته به من الدين الحنيف السهل السمح.

قوله: ﴿ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ أي: من التكليف، والمصائب والبلاء، لا تَبتَلِنَا بما لا قِبَلَ لنا به.

قوله: ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ ﴾ أي: فيما بيننا وبينك، مما تعلمه من تقصيرنا، وزللنا، ﴿ وَاغْفِرْ لَنَا ﴾ أي: فيما بيننا وبين عبادك، فلا تظهرهم على مساوئنا وأعمالنا القبيحة، ﴿ وَارْحَمْنَآ ﴾ أي: فيما يستقبل، فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر.

قوله: ﴿ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين ﴾ أي: أنت وَلِيُّنَا، وَنَاصِرُنَا، وعليك توكلنا، وأنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك، ﴿ فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين ﴾ أي: الذين جحدوا دينك، وأنكروا وحدانيتك، ورسالة نبيك، والأوصياء من بعده وعبدوا غيرك، وأشركوا معك من عبادك، فانصرنا عليهم، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة.
لا يمر علينا معنى دون معرفة أجل المعرفة كخصوصية هذه الآية المباركة التي هي من أعظم الآيات القرآنية في الدلالة التي يحدثنا فيها النبي صلى الله عليه وآله.
روي عن سلمان الفارسي قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله): لَمَّا عُرِجَ بِی إِلَی السَّمَاء … سِرْنَا فَلَمْ نَزَلْ نَدْفَعُ مِنْ نُورٍ إِلَی ظُلْمَهًٍْ وَ مِنْ ظُلْمَهًٍْ إِلَی نُورٍ حَتَّی وَقَفْتُ عَلَی سِدْرَهًِْ الْمُنْتَهَی … فَقَالَ عَزَّوَجَلَّ: یَا أَحْمَدُ! قِفْ فَوَقَفْتُ مُنْتَفِضاً مَرْعُوباً فَنُودِیتُ مِنَ الْمَلَکُوتِ یَا أَحْمَدُ فَأَلْهَمَنِي رَبِّی فَقُلْتُ: لَبَّیْك رَبِّي وَ سَعْدَیْك هَا أَنَا ذَا عَبْدُك بَیْنَ یَدَیْك!
فَنُودِیتُ: یَا أَحْمَدُ الْعَزِیزُ یَقْرَأُ عَلَیْك السَّلَامَ.
قَالَ: فَقُلْتُ هُوَ السَّلَامُ وَ إِلَیْهِ یَعُودُ السَّلَامُ،
ثُمَّ نُودِیتُ ثَانِیَهًًْ: یَا أَحْمَدُ!
فَقُلْتُ: لَبَّیْك وَ سَعْدَیْك سَیِّدِي وَ مَوْلَاي!
قَالَ: یَا أَحْمَدُ! آمَنَ ألرّسول بِما أُنْزِلَ إِلَیْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ کُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَ مَلائِکَتِهِ وَ کُتُبِهِ،
فَأَلْهَمَنِي رَبِّی فَقُلْتُ: آمَنَ ألرّسول بِما أُنْزِلَ إِلَیْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ کُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَ مَلائِکَتِهِ وَ کُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ،
فَقُلْتُ: قَدْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَك رَبَّنا وَ إِلَیْك الْمَصِیرُ،
فَقَالَ اللَّهُ عَزَّوَجَلَّ: لا یُکَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما کَسَبَتْ وَ عَلَیْها مَا اکْتَسَبَتْ،
فَقُلْتُ: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِینا أَوْ أَخْطَأْنا،
فَقَالَ اللَّهُ عَزَّوَجَلَّ: قَدْ فَعَلْتُ.
فَقُلْتُ: رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَیْنا إِصْراً کَما حَمَلْتَهُ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِنا.
فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ.
فَقُلْتُ: رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَی الْقَوْمِ الْکافِرِینَ.
فَقَالَ اللَّهُ عَزَّوَجَلَّ: قَدْ فَعَلْتُ.
فَجَرَی الْقَلَمُ بِمَا جَرَی فَلَمَّا قَضَیْتُ وَطَرِي مِنْ مُنَاجَاهًِْ رَبِّي نُودِیتُ أَنَّ الْعَزِیزَ یَقُولُ لَکَ: مَنْ خَلَّفْتَ فِی الْأَرْضِ؟
فَقُلْتُ: خَیْرَهَا خَلَّفْتُ فِیهِمْ ابْنَ عَمِّي.
فَنُودِیتُ: یَا أَحْمَدُ! مَنِ ابْنُ عَمِّکَ؟
قُلْتُ: أَنْتَ أَعْلَمُ عَلِي بْنُ‌أَبِی‌طَالِبٍ (علیه السلام).
فَنُودِیتُ مِنَ الْمَلَکُوتِ سَبْعاً مُتَوَالِیاً: یَا أَحْمَدُ! اسْتَوْصِي بعلي ‌بْنِ‌أَبِی‌طَالِبٍ ابْنِ عَمِّکَ خَیْراً.
ثُمَّ قَالَ: الْتَفِتْ فَالْتَفَتُّ عَنْ یَمِینِ الْعَرْشِ فَوَجَدْتُ عَلَی سَاقِ الْعَرْشِ الْأَیْمَنِ مَکْتُوباً لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَحْدِي لَا شَرِیکَ لِي محمد رَسُولِي أَیَّدْتُهُ بِعَلِي.
یَا أَحْمَدُ! شَقَقْتُ اسْمَك مِنِ اسْمِي أَنَا اللَّهُ الْمَحْمُودُ الْحَمِیدُ وَ أَنَا اللَّهُ الْعَلِي وَ شَقَقْتُ اسْمَ ابْنِ عَمِّك عَلِي مِنِ اسْمِي.
یَا أَبَا الْقَاسِمِ! امْضِ هَادِیاً مَهْدِیّاً نِعْمَ الْمَجِيءُ جِئْتَ وَ نِعْمَ الْمُنْصَرَفُ انْصَرَفْتَ وَ طُوبَاك وَ طُوبَی لِمَنْ آمَنَ بِك وَ صَدَّقَك، ثُمَّ قُذِفْتُ فِی بِحَارِ النُّورِ، فَلَمْ تَزَلِ الْأَمْوَاجُ تَقْذِفُنِي حَتَّی تَلْقَانِي جَبْرَئِیلُ فِی سِدْرَهًِْ الْمُنْتَهَی.

الفوائد التي تضمنتها هذه الآية المباركة:

  • رحمة الله سبحانه وتعالى بالخَلْق، حيث علَّمهم دعاءً يدعونه به، واستجاب لهم إيَّاه في قوله تعالى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا .
  • ينبغي للإنسان أن يتوسَّل في الدُّعاء بالوصف المناسِب، مِثْل الرُّبوبيَّة- التي بها الخَلْق، والتدبير؛ ولهذا كان أكثرُ الأدعية في القرآن مصدَّرةً بوصف الرُّبوبيَّة، مِثْل: رَبَّنَا، ومِثْل: رَبِّ .
  • أنَّ من كان قَبْلنا كانوا مُكلَّفين بأعظمَ ممَّا كُلِّفنا به؛ لقوله تعالى: رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا .
  • أَنْتَ مَوْلَانَا، هذه الكلمة تَدلُّ على نهاية الخضوع والتذلُّل، والاعتراف بأنَّه سبحانه هو المتولِّي لكلِّ نِعْمة يَصِلون إليها، وهو المعطِي لكلِّ مَكرُمة يفوزون بها، فلا جَرَم أَظهروا عند الدعاءِ أنَّهم في كونهم مُتكلِّمين على فضْله وإحسانه بمنزلة الطِّفل الذي لا تَتِمُّ مصلحته إلَّا بتدبير قَيِّمِه، والعبد الذي لا يَنتظِم شَمْلُ مهمَّاته إلَّا بإصلاح مولاه، فهو سبحانه قَيُّوم السَّموات والأرض، والقائم بإصلاح مهمَّات الكل، وهو المتولِّي في الحقيقة للكلِّ.
    ونحن فب هذا الشهر الفضيل نكثر من الدعاء بما أمرنا به الإمام المهدي (عجل الله فرجه)قال: أكثروا الدعاء بتعجيل الفرج فإن ذلك فرَجَكم.
    وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *