رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ

الحلقة العاشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة المؤبدة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

الدعاء في هذه الآية الكريمة المباركة من لسان أهل الإيمان، فينبغي للعبد أن يقف رويداً عندها بالتأمل والتدبر بما حوته من عظيم المنافع في مسائل الإيمان، من الذكر أولاً، ثم إلى الفكر ثانياً لأن ذكر لله وحده لا يكفي، وإنما يعطي ثماره القيمة إذا كان مقترناً بالفكر، والتفكر وحده لا يجدي ولا يوصل إلى النتيجة المطلوبة ما لم تقترن عملية التفكر بعملية الذكر.
ومثال ذلك: نرى كثيراً من علماء الفلك والفضاء يقفون في تحقيقاتهم على مظاهر رائعة من النظام الكوني البديع، ولكنهم حيث لا يتذكرون الله ولا ينظرون إلى كل هذه المظاهر بمنظار الموحد الفاحص، تكون النتيجة لتلك التحقيقات من الزاوية العلمية المجردة البحتة.

التفكر يترك عند العبد المؤمن وعياً خاصاً وآثارا عظيمة في عقله، وأول تلك الآثار هو الانتباه إلى هدفية الخلق وعدم العبثية فيه، وأنه مخلوق لهدف ومصنوع لغاية، وذلك لقوله تعالى{فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ}، فكل شيء مخلوق لغاية، ومجعول لهدف.
روي عن الإمام أبي جعفر عليه السلام: لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له: أقبل ،فأقبل، ثم قال له: ” أدبر ” فأدبر، ثم قال له: ” وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك، ولا أكملك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر وإياك أنهى، وإياك أعاقب وإياك أثيب.

فإن صاحب العقل السليم الواعي بعد أن يتعرف بالهدفية في الخليقة يتذكر نفسه فوراً، وكيف أنه أتى إلى هذه الحياة لا عن عبث، وليس الهدف سوى تربيته وتكامله، ولا لأجل أن يعيش في الحياة أياماً سرعان ما تفنى وتنقضي، فذلك أمر لا يستحق كل هذا العناء والتعب بل يفرق بين الحكمة العليا لله من وجوده خلال أعماله فإن خيراً فخير وإن شراً فشر، لدار أخرى تنتظره فينتبه إلى مسؤولياته ويسأل الله التوفيق.

عن الحسن الصيقل قال: قلت للإمام أبي عبد الله عليه السلام: تفكر ساعة خير من قيام ليلة؟ قال عليه السلام: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: تفكر ساعة خير من قيام ليلة، قلت: كيف يتفكر؟ قال عليه السلام: يمر بالدار والخربة، فيقول: أين بانوك ؟ أين ساكنوك ؟ ما لك لا تتكلمين.
وروي عن الامام أبي عبد الله عليه السلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: نبه بالتفكر قلبك، وجاف عن الليل جنبك، واتق الله ربك.
ومما نقل عندما سئل الشيخ الأنصاري قدس سره عن حديث تفكر ساعة خير من عبادة ليلة، قال رحمه الله: إن المصداق العملي لها هو تفكر الحر الرياحي في ليلة عاشوراء.
وهذه الواقعة كانت لها آثار عظيمة ودرس لكل عبد في معنى التفكر الحقيقي، قال المعلم الأكبر الشيخ المفيد ” ره “: فلما رأى الحر بن يزيد أن القوم قد صمموا على قتال الحسين عليه السلام قال:لعمر بن سعد، أي عمر أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال: إي والله قتالا شديدا أيسره أن تسقط الرؤوس، وتطيح الأيدي، قال: أفمالكم فيما عرضه عليكم رضى، قال عمر: أما لو كان الامر إلي لفعلت، ولكن أميرك قد أبى، فأقبل الحر حتى وقف من الناس موقفا ومعه رجل من قومه يقال له: قرة بن قيس، فقال له: يا قرة هل سقيت فرسك اليوم؟ قالا: لا، قال: فما تريد أن تسقيه؟ قال قرة: فظننت والله أنه يريد أن يتنحى ولا يشهد القتال، فكره أن أراه حين يصنع ذلك، فقلت له، لم أسقه وأنا منطلق فأسقيه فاعتزل ذلك المكان الذي كان فيه، فوالله لو أنه أطلعني على الذي يريد لخرجت معه إلى الحسين عليه السلام.
فأخذ يدنو من الحسين عليه السلام قليلا قليلا، فقال له المهاجر بن أوس، ما تريد يا بن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟ فلم يجبه فأخذه مثل الأفكل وهي الرعدة، فقال له المهاجر: إن أمرك لمريب، والله ما رأيت منك في موقف قط مثل هذا، ولو قيل لي: من أشجع [أهل] الكوفة؟ لما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك؟ فقال له الحر: إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار، فوالله لا أختار على الجنة شيئا ولو قطعت وأحرقت.
ثم ضرب فرسه فلحق بالحسين عليه السلام فقال له: جعلت فداك يا بن رسول الله، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، وما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضته عليهم، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، والله لو علمت أنهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت مثل الذي ركبت، وأنا تائب إلى الله مما صنعت، فترى لي من ذلك توبة؟ فقال له الامام الحسين عليه السلام: نعم يتوب الله عليك فأنزل، فقال: أنا لك فارسا خير مني راجلا، أقاتلهم [لك] على فرسي ساعة، وإلى النزول [ما] يصير آخر أمري، فقال له الحسين عليه السلام: فاصنع يرحمك الله ما بدا لك.
وهذه الواقعة تعطي العبد في التفكر الحقيقي فتنطوي عليها جملة وما للظالمين من أنصار.
إن العقلاء يقفون على هذه الحقيقة بعد التعرف على الأهداف المطلوبة منهم وهي: أن الوسيلة الوحيدة لنجاح العبد ونجاته هي أعماله وممارساته التي يختزنها لدار الآخرة؛ وبعد التعرف على الهدف والغاية من الخلق فإن هذا الطريق الوعر لا يجب أن يسلكه أحد بدون الهداة الإلهيين، الذين يدعوه إلى الإيمان بصدق وإخلاص ليقوى خوف العبد من النار فيتمسك بالوسيلة إلى الله التي فرضها عليهم وأعطاهم الحجج عليها كالولاية لمحمد وآل محمد عليهم السلام.

تضمنت هذه الآية الكريمة فوائد جليلة:

  • الحث على التأمل في خلق السموات والأرض، لأن الله تعالى ذكر فيهما آيات.
  • إن التأمل في خلق الله تعالى يثمر حسن العبادة: من الذكر والفكر والتضرع والدعاء وزيادة الإيمان.
  • إن التأمل الحقيقي يعرفه العبد من خلال الأحاديث الواردة عن أهل البيت عليهم السلام، لمعرفة الطرق الصحيحة في تفكره.
  • إن التأمل يعطي العبد أي طريق سيسلك والوسيلة التي يتخذها ليصل إلى مبتغاه في العبادة.
    ونحن في هذه الأيام المباركة ندعو الله أن يجعلنا من عباده الذين ذكروا وتفكروا في الخلق فحسنت سرائرهم وقوي ايمانهم.
    وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *