أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ

الحلقة الخامسة عشر

بسم الله الرحمن الرحيم

{أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ* وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ}.

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة المؤبدة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

الدعاء في هذه الآيات المباركة من دعوات نبي الله موسى عليه السلام، وتحمل في طيّاتها من كمال الآداب الجميلة، والمطالب الجليلة، التي يحسن بالعبد فهم معانيها ومضامينها، حتى يدعو ربّه الكريم بأجمل المباني، وأجلّ المعاني. 

بدأ الدعاء بالثناء على اللَّه تبارك وتعالى بدءاً بضمير الفصل (أنت) ليفيد التوكيد والحصر وإزالة اللبس بين الصفة والخبر وتعني أنت القائم بأمورنا الدنيوية والأخروية، وأنت ناصرنا، وحافظنا، لا غيرك، وقدّم ذكر ولايته تعالى لهم على المغفرة؛ ليكون أدعى للإجابة، وتمهيداً لطلب المغفرة والرحمة، وهذا من حُسن الأدب في الدعاء.

أما في اختياره التوسّل إلى اللَّه تعالى باسم من أسمائه تعالى الحسنى، وهو (الوليّ) الذي له تعالى الولاية العامة على كل الخلائق: بالخلق، والتدبير، والرزق، والتصريف، وله الولاية الخاصّة لأوليائه: من الحفظ، والعناية، والرعاية، والنصرة على عدوّهم، وهذه الولاية التي سألها موسى عليه السلام.

في آيات الدعاء الجليلة قصص قد بينا الله عزوجل ماجرى عليهم، فكان الدعاء يصدر من الأنبياء والأوصياء، أما رحمة أو غضبا على القوم، وفي هذه الآيات معاني الرحمة والمغفرة صدرت من نبيه الكريم، فكما روي عن الإمام الرضا عليه السلام مع أصحاب المقالات والأديان قال عليه السلام:  فمتى اتخذتم عيسى عليه السلام ربا جاز لكم ان تتخذوا اليسع وحزقيل، لأنهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى عليه السلام، إلى أن قال: ثم موسى بن عمران عليه السلام وأصحابه السبعون الذين اختارهم وصاروا معه إلى الجبل فقالوا له: إنك قد رأيت الله فأرناه سبحانه كما رأيته فقال لهم: إني لم أره فقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم وبقي موسى وحيدا فقال:

يا رب اخترت سبعين رجلا من بني إسرائيل فجئت بهم وأرجع وحدي فكيف يصدقني قومي بما أخبرتهم به؟ فلو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟

وفي كلام الامام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه مع سعد بن عبد الله القمي في سر من رأى أيام الامام الحسن العسكري عليه السلام ، في  حديث طويل وفيه: قلت: فأخبرني يا بن مولاي عن العلة التي تمنع القوم من اختيار الإمام لأنفسهم؟ قال: مصلح أم مفسد؟ قلت: مصلح قال: فهل يجوز ان تقع خيرتهم على المفسد بعد ان لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد قلت: بلى قال عليه السلام: فهي العلة، وأوردها لك ببرهان ينقاد لك عقلك، ثم قال عليه السلام: اخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله عز وجل، وانزل عليهم الكتب وأيدهم بالوحي والعصمة وهم اعلام الأمم اهدى إلى الاختيار منهم، مثل موسى وعيسى عليهما السلام، هل يجوز مع وفور عقلهما وكمال علمهما إذ هما بالاختيار ان تقع خيرتهما على المنافق وهما يظنان انه مؤمن؟ قلت: لا قال عليه السلام: هذا موسى كليم الله مع وفور عقله وكمال علمه ونزول الوحي عليه اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربه عز وجل سبعين رجلا ممن لا يشك في ايمانهم واخلاصهم، فوقع خيرته على المنافقين قال الله عز وجل: ” واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا ” إلى قوله: ” لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ” فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه الله عز وجل للنبوة واقعا على الأفسد دون الأصلح، وهو يظن أنه الأصلح دون الأفسد علمنا أن الاختيار لا يجوز الا لمن يعلم ما تخفى الصدور وما تكن الضمائر، ويتصرف عليه السرائر وان لا خطر لاختيار المهاجرين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد لما أرادوا أهل الصلاح.

رحمة الله التي لا يستغني عنها الأنبياء والأوصياء وكذلك عباد الله المؤمنين الطماعين بها دائما، لأن الله هو ولي الخلق فمنه تنزل الرحمة ومنه المغفرة، كما روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال: إن الله تعالى خلق مائة رحمة يوم خلق السماوات والأرض كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض ، فأهبط رحمة منها إلى الأرض فبها تراحم الخلق ، وبها تعطف الوالدة على ولدها ، وبها تشرب الطير والوحوش من الماء ، وبها تعيش الخلائق.

وقوله :(وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ)أي أنّ كلّ غافر سواك، إنما يغفر لغرض، كحب الثناء، ودفع الضرر، أما أنت فإنك تغفر لا لطلب عوض، ولا غرض، بل لمحض الفضل والكرم على عبادك العاصين.

قوله تعالى: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة) أي: أسس لنا فيها خصلة حسنة، كالعافية والحياة الطيبة والتوفيق للطاعة، (وفي الآخرة) أي: حسنة أيضاً، وهي: المثوبة الحسنى أي المغفرة والجنة. 

روي عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال: “والله لو أنّ إبليس – لعنه الله – سجد لله بعد المعصية والتكبّر عُمر الدنيا ما نفعه ذلك ولا قبله الله ما لم يسجد لآدم كما أمرَه الله عزّ وجلّ أن يسجد له، وكذلك هذه الأمّة العاصية المفتونة بعد تركهم الإمام الذي نصبه نبيّهم لهم، فلن يقبل الله لهم عملاً ولن يرفع لهم حسنة حتى يأتوا الله من حيث أمرَهم ويتولّوا الإمام الذي أمرهم الله بولايته، ويدخلوا من الباب الذي فتحه الله ورسوله لهم.

تضمنت هذه الآية فوائد: 

– ينبغي للعبد الداعي أن يختار في دعائه لربه تبارك وتعالى أنبل الألفاظ، وأجمل المعاني والتعظيم.

– التوسّل باسم من أسماء الله الحسنى (الولي) كما في قوله: (وليّنا)

– العناية بأجلّ المطالب والمقاصد في الدنيا والآخرة حال الدعاء، وهي: طلب المغفرة، والرحمة ومعرفة ما أوجب الله على العبد من معرفة إمام زمانه حتى يصل بمطالبه في الدنيا والآخرة.

ونحن في هذه الأيام والليالي المباركة نسأل الله أن يجعلنا من المرحومين والمغفور ذنوبهم ومن الذين كتبت لهم حسنة الدنيا والآخرة، ببركة معرفة الحق فنقول داعين : اللهم عرفني نفسك، فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك، اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني. 

وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *