الليلة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم

اَلْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَيْسَ لِقَضآئِهِ دَافِعٌ، وَلاَ لِعَطَائِهِ مَانِعٌ، وَلاَ كَصُنْعِهِ صُنْعُ صَانِع وَهُوَ الْجَوَادُ الْوَاسِعُ، فَطَرَ اَجْنَاسَ الْبَدَائِعِ، واَتْقَنَ بِحِكْمَتِهِ الصَّنَائِعَ.

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة المؤبدة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

الحمدلله الذي جعلنا من العائدين في هذا الشهر الشريف، بالتوفيق لصيام أيامه وقيام لياليه في طاعته.
بعد التوكل على الله ومنه التوفيق، واستجابة لما كان من وصية علمائنا (رضوان الله تعالى عليهم) في استغلال الوقت في طاعة الله في جميع الأوقات نشرع في هذا الشهر المبارك في شرح دعاء الإمام الحسين عليه السلام في يوم عرفة.

روي عنه في دعائه عليه السلام: (اَلْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَيْسَ لِقَضآئِهِ دَافِعٌ، وَلاَ لِعَطَائِهِ مَانِعٌ).
قال تعالى في سورة القمر: ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ).
القضاء والقدر من الأبحاث التي وقع فيها الكلام بين علماء المسلمين، وكان لكل معتقده، ولكن الحق والبيان يأتي من مدرسة الفصل والتبيان مما يروى عنهم عليهم السلام.

عن يونس بن عبد الرحمن قال: قال لي أبو الحسن الرضا (عليه السلام): يا يونس لا تقل بقول القدرية! فإن القدرية لم يقولوا بقول أهل الجنة، ولا بقول أهل النار، ولا بقول إبليس، فإن:

  • أهل الجنة قالوا: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) .
  • وقال أهل النار: (ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين) .
  • وقال إبليس: (رب بما أغويتني) فقلت: والله ما أقول…
    فقال: يا يونس! ليس هكذا، لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى، يا يونس تعلم ما المشيئة؟
    قلت: لا.
    قال: هي الذكر الأول، فتعلم ما الإرادة؟
    قلت: لا.
    قال: هي العزيمة على ما يشاء، فتعلم ما القدر؟
    قلت: لا.
    قال: هي الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء، قال: والقضاء: هو الإبرام وإقامة العين، قال: فاستأذنته أن أقبل رأسه وقلت: فتحت لي شيئا كنت عنه في غفلة.

إن الكلام في هذا الباب موسع ولكن نختصر للإفادة:
قسموا القضاء والقدر إلى قسمين: علمي وعيني.
العلمي: فالقدر هو علمه سبحانه وتعالى بما تكون عليه الأشياء كلها من حدود خصوصيات.
والقضاء: هو علمه سبحانه بحتمية وجود تلك الأشياء وعللها ومبادئها.
والقضاء والقدر العيني:
التقدير العيني: أن الموجودات الممكنة على صنفين:
١- موجود مجرد عن المادة والزمان والمكان فقدره هو ماهيته التي يتعدد بها وجوده.
القضاء العيني: هو عبارة عن الضرورة التي تحقق وجود الشئ بتحقيق علته التامة بحيث يكون وجوده ضرورياً مقطوعا به من ناحية علته الوجودية.

روي عن النبي صلى الله عليه وآله قال: سيأتي زمان على أمتي يؤولون المعاصي بالقضاء، أولئك بريئون مني وأنا منهم براء.
فكل شيء مقدر منه تعالى ويقضي به في عباده سواء كان موتا او حياة اور صحة أو رزقا…الخ.
فلو أخذنا الرزق مثالا لوجدنا أنه:
قال تعالى في محكم كتابه العزيز في سورة آل عمران: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ويخرج الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ويرزق من يشاء بِغَيْرِ حساب).

ينقسم الرزق الى قسمين: حتمي وغير حتمي.
روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قال: الرزق رزقان: رزق تطلبه ورزق يطلبك، فإن لم تأته أتاك فلا تحمل هم سنتك على هم يومك، كفاك كل يوم ما فيه، فإن تكن السنة من عمرك فإن الله تعالى جده سيؤتيك في كل غد جديد ما قسم لك، وإن لم تكن السنة من عمرك فما تصنع بالهم لما ليس لك، ولن يسبقك إلى رزقك طالب، ولن يغلبك عليه غالب، ولن يبطئ عنك ما قد قدر لك.

روي عنه عليه السلام في دعائه: وَلاَ كَصُنْعِهِ صُنْعُ صَانِع وَهُوَ الْجَوَادُ الْوَاسِعُ، فَطَرَ اَجْنَاسَ الْبَدَائِعِ، واَتْقَنَ بِحِكْمَتِهِ الصَّنَائِعَ.

قال تعالى في محكم كتابه العزيز في سورة العنكبوت: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير}.

إن كيفية الخلق والصناعة الإلهية لا يتحملها العقل البشري الضعيف فاحتاج العبد الى من يرشده لفهم هذا الخلق والصناعة التي أرهقت المفكرين وغيرهم، في استنتاجاتهم المختلفة بين العلم والشك والوهم، ولكن ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء وشق الأرجاء وسكائك الهواء، فأجرى فيها ماء متلاطما تياره ، متراكما زخاره، حمله على متن الريح العاصفة، والزعزع القاصفة، فأمرها برده ، وسلطها على شده، وقرنها إلى حده، الهواء من تحتها فتيق ، والماء من فوقها دفيق.
ثم أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مهبها وأدام مربها، وأعصف مجراها وأبعد منشاها، فأمرها بتصفيق الماء الزخار، وإثارة موج البحار، فمخضته مخض السقاء، وعصفت به عصفها بالفضاء، ترد أوله إلى آخره، وساجيه إلى مائره، حتى عب عبابه، ورمى بالزبد ركامه فرفعه في هواء منفتق، وجو منفهق، فسوى منه سبع سماوات، جعل سفلاهن موجا مكفوفا، وعلياهن سقفا محفوظا، وسمكا مرفوعا، بغير عمد يدعمها، ولا دسار ينظمها .
ثم زينها بزينة الكواكب، وضياء الثواقب، وأجرى فيها سراجا مستطيرا، وقمرا منيرا في فلك دائر، وسقف سائر، ورقيم مائر .

قال تعالى في محكم كتابه العزيز في سورة الدخان: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

إن الله عز وجل ربط بين الخلق وبين الحكمة والعلة من الخلق، فلم يخلق الله الخلق عبثاً ولا لعباً، وإنما خلق الخلق جميعه لحكمة، وخلق تفاصيل الخلق لحكم عظيمة يدركها الإنسان في خلقته، وفيما حوله من المخلوقات التي يمتلئ بها الكون؛ من حيوانات، وحشرات، وشجر، ونبات، ومن بحار، وأنهار، وجبال، وسهول، ورياح، وأمطار، وهي حكم متعددة ومتداخلة يؤكد بعضها بعضاً، ويسوق بعضها بعضاً في صور من الجلال والإبداع والكمال، وغايتها وحقيقتها تحقيق العبودية لله دون ما سواه.

ولو تفكَّرت في عظيم خلق الله تعالى، ونظرت إلى آثار خلقه وموجوداته لأدركت البراهين الكبرى في الخلق، والقدرة والحكمة الناصعة في الخالق.
قد روي عن الإمام علي عليه السلام قال: ولو فكَّروا في عظيم القدرة، وجسيم النِّعمة، لرجعوا إلى الطريق، وخافوا عذاب الحريق، ولكن القلوبَ عليلةٌ، والأبصار مدخولةٌ. أفلا ينظرون إلى صغير ما خلق: كيف أحكم خلقه وأتقَن تركيبه، وفلق له السمع والبصر، وسوَّى له العظم والبشر؟ انظروا إلى النملة في صغر جثَّتِها ولطافة هيئتها، لا تكاد تُنال بلحظ البصر ولا بمستدرك الفكر، كيف دبَّت على أرضها وضنت على رزقها.. لو فكَّرت في مجاري أكلها، وفي علوها وسفلها، وما في الجوف من شراسيف بطنها، وما في الرأس من عينها وأُذنها، لقضيت من خلقها عجباً، ولقيت من وصفها تعباً.. فانظر إلى الشمس والقمر، والنبات والشجر، والماء والحجر، واختلاف الليل والنهار، وتفجُّر هذه البحار، وكثرة هذه الجبال، وطول هذه القلال، وتفرُّق هذه اللغات والألسن المختلفات. فالويلُ لمن أنكر المقدّر، وجحدَ المُدبّر، زعموا أنّهم كالنبات ما لهم زارع ولا لاختلاف صورهم صانع، لم يلجأوا إلى حجَّة فيما ادّعوا، ولا تحقيق لما وَعَوا، وهل يكون بناءٌ من غير بانٍ أو جنايةٍ من غير جانٍ.

ونحن في هذه الأيام والليالي المباركة نرفع أكفنا بالدعاء لتعجيل فرج مولانا صاحب العصر والزمان، روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم )قال : الأئمة بعدي اثنا عشر أولهم أنت يا علي وآخرهم القائم الذي يفتح الله عزوجل على يديه مشارق الأرض ومغاربها.

وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *