أرشيف التصنيف: العرف وعناصره الشرعية

البعث والزجر في لفظ الجلالة

الأمر (البعث) بالولاية والإلزام و النهي(الزجر) في أحرف لفظ الجلالة 

بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ

اللَّهُمَّ رَبَّ شَهرِ رَمَضانَ، مُنَزِّلَ القُرآنَ، هذا شَهرُ رَمَضانَ الَّذي أنزَلتَ فيهِ القُرآنَ وأنزَلتَ فيهِ آياتٍ بَيِّناتٍ مِنَ الهُدى والفُرقانِ. اللَّهُمَّ ارزُقنا صيامَهُ، وَأعِنّا عَلى قيامِهِ.(*)

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد.

الألف في لفظ الجلالة

‎من المعلوم أن إثبات الولاية مصرح بها في القرآن الكريم في قوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (1) ، وغيرها من الآيات الصريحة في الولاية.

و مصرح بها في السنة الشريفة في حديث الثقلين و بيعة و خطبة غدير خم و الكثير منها لإثبات الولاية عنده جمهور المسلمين، و هناك روايات كثيرة جمعها بعض العلماء في كتاب واحد كوحدة موضوعية في تأويل بعض آيات القرآن بأنها لولايتهم سلام الله عليهم ، كما مر علينا في تأويل الباء وسين من البسملة وقلنا يرجع تأويلها لله عز وجل ويمكن أن تكون مشروطة أو الله يعطي الأذن في الشفاعة و هذه التأويلات لمن يتحمل قلبه(2).

و من بعد هذه المقدمة ، قد جاء عن المعصوم عليه السلام في الرواية السابقة حين سئُل عن الله فقال :<<الألف آلاء الله على خلقه من النعيم بولايتنا>>(3)أي أن نعمة الله على الخلق هي ولاية أهل بيت النبوة

التي عبرنا عنها مسبقا بالمشروطة، ومعنى آلاء هي النعمة و نعم الله كثيرةلا تحصى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(4)، أعلى مصداق و أصدق مصداق هي نعمة الولاية وهناك رويات كثيرة تعضد تأويل هذا المعنى منها :

1- قال علي بن إبراهيم: حدثنا أحمد بن علي،قال: حدثنا محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين ، عن محمد بن أسلم ،عن علي بن أبي حمزة ، عن أبي بصير ، قال سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله عزوجل:( فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، قال الله تعالى:فبأيً النعمتين تكفران، بمحمد أم بعلي عليهما السلام.(5)

24-محمد بن الحسن الصفار: عن الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، ومحمد بن جمهور، عن عبدالله بن عبدالرحمن، عن الهيثم بن واقد ، عن أبي يوسف البزاز، عن أبي عبدالله عليه السلام قال تلا علي عليه السلام هذه الآية:(فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ) قال أتدري ما آلاء الله؟ قلت : لا.

قال: هي أعظم نعم الله على خلقه وهي ولايتنا(6).

اللام والهاء في لفظ الجلالة

قُرنت طاعة الله عزوجل و ولاية الله عزوجل مع طاعة و ولاية النبي و أولي الأمر منكم في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) (7)وفي قوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) ( 8) فلا ضير أن يمن الله بالنعمة الكبرى وهي الولاية لبيت النبوة في تأويل الألف بآلاء الله في لفظ الجلالة كما سبق.

وفي قوله تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (9) حيث المنة لله عزوجل فقط ، و من  بعد الإقران منًة الله ، نذكر صيغة الأمر في أطيعوا التي مفادها الإلزام بطاعة الله عزوجل وأهل بيت النبوة صلوات الله عليهم، و نذكر الآية (إنما وليكم) التي مفادها حصر الولاية لله عزوجل ولبيت النبوة صلوات الله عليهم وهنا يظهر ما جاء من تأويل عن أبي عبد الله حين سئل عن الله لفظ الجلالة الى أن قال<<اللام إلزام الله خلقه ولايتنا>>(10).

وهنا جهتان:

 الجهة الأولى: لا ضير أن يكون إلزام الولاية من ضمن حروف لفظ الجلالة لأنه تعالى قرن طاعته و ولايته معهم .

و من جهة ثانية : هناك أوامر تذكير بالالتزام بها ، وظهر تكرارها في عدة مواضع حتى في لفظ الجلالة لأهميتها ، وأكثر من ذلك تأويل الهاء في لفظ الجلالة كما جاء في تكملة الرواية عن أبي عبدالله عليه السلام حين سئل عن الهاء فقال <<هوان لمن خالف محمدا وآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين>> (11)تدل على البعث في تأويل اللام و الزجر في تأويل الهاء، أي لفظ الجلالة بعد المن بالنعمة الولاية ألزم بها و زجر وكل هذا الترتيب جاء في قوله تعالى{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}(12).

—————————————————

*- السيد ابن طاووس – إقبال الأعمال -ج 1- الصفحة 78.

‎1- المائدة:55

‎2- كامل الزيارات ص180

‎3- قال: حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، عن العباس بن معروف، عن صفوان بن يحيى    ، عمن  حدثه عن أبي عبد الله عليه السلام  أنه سئل عن بسم الله الرحمن الرحيم فقال: الباء بهاء الله، السين سناء الله، والميم ملك الله، قال: قلت: الله ، فقال: الألف آلاء الله على خلقه من النعيم بولايتنا ، و اللام إلزام الله خلقه ولايتنا ،  قلت : فالهاء ، فقال: هوانٌ لمن خالف محمدا وآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين.(1)

‎4- النحل:18

‎5- الرحمن:13،البحراني/الهداية الى الولاية2/ص321

‎6- الأعراف: 69، 74 ،،البحراني/الهداية الى الولاية1/ص227

‎7- النساء:59

‎8- المائدة:55

‎9- الحجرات:17

‎10- ، 11  – راجع هامش 3

1-الصدوق/التوحيدص230

العرف والأحكام الشرعية

بسم الله الرحمان الرحيم

[responsivevoice_button voice=”Arabic Male” buttontext=”القارئ الآلي”]
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين
الأحكام الشرعية الخمسة من وجوب واستحباب وتحريم وكراهة وإباحة معروفة عند المتشرعة بمصطلحاتها وملاكاتها على نحو معروف وحقيقي، إلا أن الخلاف في الإباحة حيث وجود الملاك وعدمه وكلام طويل موسع يحتاج لبحثه في كتب الأصول أحيانا.
وكذلك قد يختلف العلماء في موردية الاختلاف بين الوجوب والاستحباب بين من يقول بالاختلاف وبين من يرى أنه لا يعدو عن كونه قوة وضعفا في منطوق الأمر ، وكذلك في التحريم والكراهة نفس النقاش على نحو زجري ونهي ..وما مضى هو من كلام المتخصصين .
أما المثقفين والعوام غير المتخصصين فلا يعلمون بمثل هذه التقسيمات ولا مقسمها ولا نقاشات العلماء فيها، ولذلك قد يتوجهون لعرف المعنى اللفظي، فينتزعون المفهوم منه بحسب ما يتبادر لهم دون الاهتمام بجهة الخطاب الشرعي وخصوصياته وإنما لعموميات الألفاظ ومعانيها فتضيع الخصوصيات فتصبح المعاني عامة بعموم قد يتناول الوجوب والاستحباب تحت مسمى الطلب كفرد واحد ، والنهي والحرمة تحت مسمى الزجر والنهي كفرد واحد ، بل يمكن أن يحصل الضد في أفراد الوجوب بعموم حكم حرمة الترك ، أو في أفراد الحرمة بعموم حكم وجوب الترك .. وقد بحث الشيخ الآخوند (قدس سره) في الكفاية هذا الأمر معتبرا أن لا ضد بينهما في كلام واضح ورد من يقول بالضد فيهما..
ومن منطلق انتزاع المفهوم من معاني الألفاظ عرفا دون الرجوع للمصطلحات والحدود التامة، قد لا نجد هذا الضد أصلا في الاستحباب لأنه لا يحرم تركه، كما لا نجده في المكروهات لأنه لا يحرم فعلها ، بل وقد يتحاوز المفهوم العرفي باعتبارها مرخصة الترك في المستحبات، ومرخصة الفعل في المكروهات، رغم الأمر والنهي في الخطابين الشرعيين ..
لذلك فمن الضروري مراعاة هذا التفاوت في الملاكات والموارد التي تنظر لهذه الخصوصية.
فمن الممكن ارتفاع هذه الأضداد في فرد إن تم مراعاة السياق فيه، كالزجر عن ترك الصلاة لامتثال الأمر بأدائها، والنهي عن ترك المستحبات لتحصيل ثوابها وضرورة التقرب إلى الله، والأمر بترك المكروهات لتحصيل ثواب ذلك بالقربة لله سبحانه وتعالى، والزجر عن المحرمات بالأمر بتركها للنجاة من النار، فهذه الجهة فرعية..
فالجمع العرفي لا يأبى مثل هذه السياقات لعدم تناقضها وإمكان ارقفاع ضدها في الفرد الواحد وعدم امتناعه، حيث أن الامتناع يحصل فيما لو حصل في فردين متمانعين .
فالجمع العرفي يأبى الجمع بين فردين متمانعين مختلفين إلا إذا كان هناك ما يجمعهما في المورد فيتقيد العرف بهذا المورد الجامع ..
أما تحويل مسألة تقسيم الأحكام للجهة الأصولية العقدية فقد يصادر هذا المورد حتى خصوصيات الأحكام العلميةوالمصطلحاتية، لذلك فقد ترى كثيرين يقولون: كيف لا ننتهي عن المكروهات وقد نهانا عنها الإمام المعصوم مفترض الطاعة؟
إن نهي الإمام عليه السلام منه ما فيه الترخيص بالأدلة المتصلة أو المنفصلة فيكون مكروها ومرخصا بخطابه .. ومنه ما فيه الأمر بالفعل مع الترخيص بالترك فيكون كذلك بحسب توجيهات الإمام عليه السلام، بل وأن جعل المستحب واجبا في قول الإمام عليه السلام وتقريره، وجعل المكروه حراما، تشريع وادعاء لنسب مالم يصدر منه إليه وهو من الكبائر، فالظهور يأبى في خطابه إلا ما بتبادر إلينا منه في مقام التلقي والامتثال.

والحمد لله رب العالمين
عباس العصفور
النجف الأشرف

التوافق في تأليف القضايا العرفية

بسم الله الرحمان الرحيم

[responsivevoice_button voice=”Arabic Male” buttontext=”القارئ الآلي”]

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين

قد مر سابقا بأن القضايا العرفية لو دخلت في أشكال القياس لكان الحد الأوسط متفاوتا في مصداقه في عالم الإثبات، وفي هذه الحالة سنحتاج للتنسيق الإسنادي والحملي على ما يصدق عليه الدليل للوصول للهيئة المقيدة.
فلو أطلقنا العنان بلا تقييد وتركنا المفاهيم على عمومياتها لتداخلت وتعارضت حتما بكيفية قد يمتنع معها التوفيق والتنسيق حيث سيتحول الأمر من حالات التوفيق والجمع لحالات الامتناع والضد حيث ستختلف مصاديق الحد الأوسط ونفقد الاتصال بين القضيتين إما موضوعا أو حملا ..
مثلا :
الصورة الأولى :
لو قلنا بحسب الأدلة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام بجواز غيبة الأب لإبنه وفي دليل آخر حرمة الغيبة لجمعناهما بكونهما حكمين مختلفين وحكم غيبة الأب أخص وأظهر من الحكم العام، ولكن لو فرضنا الجمع بين الحكمين فهل يتصور الحكم بالكراهة بناتج الجمع بين النهي والترخيص ؟ سياتي ذلك في الأحكام .. ولكن الذي يعنينا أنه لا شيء يجمع الموضوعين غير حمل الغيبة عموما تارة وخصوصا أخرى، ومن هذه الجهة نجد لو قلنا بالكراهة لعارضنا رواية التجويز والترخيص.
الصورة الثانية :
لو رجعنا لدليل تجويز الغيبة للفاسق عن أهل البيت عليهم السلام وحملناها على الترخيص بمفهوم الفاسق العام ، فالمعنى متفاوت حتى لغير الفاسق عرفا حيث سيشمل الغير محتشمين لقلة مروءتهم وحالق اللحية لرفض شهادته عند البعض وهكذا سيتناول مصداق الغيبة بهذا المفهوم أفرادا كثيرة قد نهتنا الأدلة وحرمت اغتيابها ..
فالتنسيق والترتيب في الاتصال بين معاني المفاهيم لتتلاقى في المصاديق الخارجية مطلوب كي لا تتغير القضايا بتغير الحدود الوسطى فتفقد هيئتها الاتصالية التي تؤلف بين موضوع الأولى ومحمول الثانية أو العكس بالعلة التي يصنعها هذا الاتصال.
لذلك مراعاة جانب الصدق في المصداق مطلوب لتحقق الظهور بالقدر المتيقن الصالح للاحتجاج وتأليف الحجج بالجمع العرفي بين الأدلة.
لو نظرنا إلى الضد في الوجه المسكوت عنه بين القضيتين فلا يعتبر ذلك مسقطا لحجيتهما بهذا التعارض وإنما قد ينفصلان كما في الصورة الأولى فتكون الأولى عامة والثانية خارجة تخصيصا لها حكمها المستقل بها ، أو كما في الصورة الثانية حيث يجمع الحكم في الظهور بالقدر المتيقن فيه الحكم من المصاديق الخارجية..

أما لو انقطع هذا الاتصال ستصبح القضيتان غريبتين عن بعضهما البعص باعتبار عدم اتحاد الموضوع أو تغير الأدلة ، كما في الأدلة : بأن في الجنة خمرا محللا وفي جانب آخر من الأدلة  بحرمته في الدنيا فلا يجتمع ذلك بكراهته وليست حليته في الجنة حجية كافية لتناوله في الدنيا لأن الدليل لم يتناول ذلك أبدا، وكل دليل مستقل بمصداقه ..
والحمد لله رب العالمين
عباس العصفور
النجف الأشرف

الظهور بالمعنى العرفي

بسم الله الرحمان الرحيم

[responsivevoice_button voice=”Arabic Male” buttontext=”القارئ الآلي”]

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين

عكفت الكثير من المذاهب على اعتبار العرف في مستوحى المفهوم اللفظي فقط، بل رفضوا غير ذلك مما جعلهم متأرجحين بين المعنى اللغوي والاستعمال بشكل أو بآخر، وكأن الأمر مختص بالألفاظ ولا قيمة للظهور عبر القرائن الحالية التي لها أثرها الشرعي الخاص حينما لا ينتابها اللبس والتعدد في المعاني.

ومن المعروف أن الظهور يصل لحالة من الحجية إذا ما وصل لمرحلة من مراحل التبادر المقنعة التي يمكن أن يلتزم بها العقلاء على نحو واضح لفظا أو تقريرا مما تعارف عليه الناس أو تسالم عليه العقلاء.

ومن هنا يمكننا الالتفات لنوعية النتيجة الحاصلة من التبادر في عدة صور متعددة حسب الحيثيات والجهات الملزمة إذا ما تم تفعيل هذا الظهور ليصل لمرحلة الاحتجاج به واعتبرت صلاحيته نافذة في إجراء الأحكام الشرعية على المتصرفين في الأعيان والمقرين والشهود وغيرها من سياقات الكشف عن الواقع والمراد .

الكثير من تصرفات العقلاء قد تبدو غامضة أو تحمل على عدة وجوه بجانب الألفاظ الغير محددة والتي لا يمكن إلزام الناس بها بمجرد حصولها أو وجودها في الخارج بأي نحو كان، لأن الظن مع كثرة وجود الاحتمالات بهذا القدر لا يمكن التعويل عليه ولا البناء على مخرجاته المتعددة، لأننا لو فعلنا ذلك فقد فتحنا أبوابا متعددة تتعدد بالتزامات كل ظن على حدة ويصبح جزاء الفعل الواحد متعددا باتجاهات مختلفة وهذا مما لا يمكن أن نعتبره مرادا في فعل واحد لاستحالة البناء عليه في آن واحد عقلا.

فهل ينتفي الظهور إذا ما لم يتبادر للذهن في سياقه العرفي ونتيجته المحصلة من قضاياه بالحد الأوسط المأخوذ بالمعنى العرفي _ الذي ذكرناه سابقا_ أم يؤخذ به ويتبقى علينا إيجاد القرائن والبحث فيها؟ أم يترك كمعنى من المعاني المجازية حتى يحصل على قرائنه التي تجعله من المعاني الحقيقية في مرادات المتكلم؟

من المتعارف أن الحركات المريبة أو الحدث اللافت والملفت عادة لا يكون إلا لغرض وغاية، فمنها ما يكون إشارة كالتصرف الدال على الملك ومدياته، كتنظيف المكان من غير إحداث تغيير في العقار .. أو إقرارا لفظيا عبر التمثل بأبيات شعرية أو أمثال شعبية.. أو التصرفات التي نحملها على الصحة وفق القواعد الفقهية من زوجية أو بنوة وأمثالها والتي يمنع الشارع الأقدس حملها على سوء الظن، أو من تصرفات كلبس السواد للحزن تارة بكيفية وللفرح أخرى بكيفية أخرى .. فهذه الحركات عادة لا تكون إلا لعلة ولكن لا يشترط أن تكون هذه العلل واضحة لكونه غير مطالب بالتصريح بعلله في كل تصرفاته عدا بالنزاعيات إذا استلزم الأمر، ولكن هذا المعلول يعطينا معنى ظهوريا واضحا !

بقي أمر التبادر الذي لابد منه، فهو الفيصل ليجعل هذا الظهور حجة أو لا ، فما كان واضحا في تبادره ولايمكن أن يلبس بمعاني أخر ظاهرا يلزم ويكون إقرار ، وما ليس بذلك فالعكس، وهكذا.. فعلى جميع الحالات إن كانت الحدود الوسطى في مثل هذه القضايا من جهة المحمولات غير مسندة بشكل تام أو لم تصل للقدر المتيقن بإمكانية إلزام المتصرف أو الفاعل للقرائن الحالية فلا يمكن اعتبار حجية ظهورها إلا فيما تمت معانيها فيه بالمقدار المتيقن منه ويصرف الغير تام لعدم صلاحية الاحتجاج به..

وإن كان العرف قد يتسامح في المعنى المتفاوت والمعنى المتردد حال الإسناد أو حال التعليل لتصرفات الناس مما قد يدخلنا في فرضيات الاحتمالات المفتوحة بأوسع مصاريع أبواب الظنون ويجعل من الشكوك مسرحا كبيرا لإجراء الأصل العملي في عدة احتمالات من فعل واحد فيضيع الواقع وتضيع حتى الوظيفة الشرعية في مثل هذا الفرض لتعدد المواضيع والمحمولات وتعدد العناوين بحسب الظرف تارة والنوع أخرى بل حتى المدعي والمنكر في النزاعيات ..

والحمد لله رب العالمين..

الميرزا عباس العصفور

النجف الأشرف

 

عادية العرف

بسم الله الرحمان الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين .

كان الكلام في ادعاء الحاكمية للعادات على التشريعات مطلقا٫ وقد اتفقنا على حاكمية الشريعة في كل الأحوال نظرا لضبابية واتفاقية العرف بجانب أن التعبد بالعرفيات له طرقه وسياقاته المجعولة في الشريعة.

وقد آن أوان الوفاء ببيان العادات كما وعدناكم سابقا٫ فالعادات والتقاليد العرفية المختلفة لها عدة سياقات للتعارف والتسالم٫ منها ما هو موروث مصادفة ٫ ومنها ماهو مفروض على الناس حتى تعارفوا عليه لمصالح سياسية أو اجتماعية معينة ومنها ماهو مأخوذ بتفكير جمعي آو علة تقتنع بها مجموعة ما.

فالعادة العرفية المصادفة والموروثة لا يمكن مناقشتها بسبب غياب معيارها أو عدم وضوحه٫ وفي مثل هذه الحالات الاتفاقية لا يمكن تقنين القانون بلا معرفة الوسيط القياسي.

والمفروض على الناس بسبب بيئي أو سياسي أو حكومي أو وضعي حتى يقتنع به البعض أو يتسالمون عليه يسمى قانونا وضعيا ومنه ماهو قهري ومنه الاختياري ومنه الاستحساني والتنظيمي وغيره مما نعيشه اليوم٫ وهذا القانون المدني لا يعد عرفا ولكن شريعة وضعية للشارع المقدس فيه أخذ ورد.

ونأتي للعادات المقبولة عند العقلاء حيث وضعت في الأعراف لمنشأ عقلائي خاص واضح المعالم ٫ كأن يكون للواضعين والمتسالمين وجه وجيه بلا تدخل من القوانين المفروضة قهرا ٫ ولو من باب اللياقة أو الاستحسان بحسب السياق العقلي لا النفسي ٫ فللشرع فيه إمضاء إن لم يصطدم بالمانع وذلك لأن الشارع لا يختلف مع العقلاء.

الأقيسة في مثل هذه العادات تكون ذات تأليف مختلف بين المقدمات وإن شابهتها صوريا في هيئة الأقيسة إلا أن المحمول على الموضوع إسناده علي نحو تسامحي خاص بوجه من وجوه العقل٫ لذلك فقد تنتج مثل هذه المقدمات في سقوط الحد الأوسط نفس التسامح في تآلف موضوع الأولى  ومحمول الأخرى والعكس في النتيجة النهائية المركبة٫ كما وأن الحد الأوسط لو أخذ علة فيها فيحتاج لكثير من القيود والتقييدات لحصر وتنظيم الصدق في منتجات النتيجة٫ لذلك فحمل الإطلاق والتقييد على نحو عرفي في الأمور الإضافية قائم.

هذا إذا أخذنا العادة على نحو ذاتي لا إضافي ٫ أما في الإضافيات القائمة على المستثنيات عادة لتحقيق العادة الفريدة أو بيان اختلاف عناوين موضوع العادة لتحصيل حكم خاص من الشارع فهنا يصبح الكلام إجماليا فيتحصل له من الشارع حكم إجمالي يشمل العنوان من وجه من الوجوه فيحصل الحكم بنفس مقدار ذلك الوجه.

ولكن لو أخذ العنوان على نحو خاص لظرفه الخاص ونوعه الخاص فيتحصل له حكم خاص متقيدا بالظرف والتقييدات الإضافية.

والحمد لله رب العالمين.

 

عباس العصفور

النجف الأشرف

 

هل العادة محكّمة دائما؟

بسم الله الرحمان الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين..

قد مر علينا فيما سبق من آراء المذاهب حول الاعتقاد بأصالة العرف عند البعض منهم، وقد مر في ذلك ما مر من كون الأصل وظيفة شرعية حين الشك وأن التأصيل يكون بقانون وحكم العقل مع جعل شرعي واضح يستدعي الفراغ اليقيني.

ولكن الذي لفت الانتباه بشكل خاص اعتبار عادات العرف وتقاليدها محكمة على نحو مطلق حيث قالوا بأن (العادة محكّمة) وجعلوها أصلا من أصولهم وقاعدة يرجعون إليها في حال الشك والتقنين، وقد مر في المقالات السابقة النقاش حول عادية العرف أو طبعيته.

في حال التعارض بين العادة والشريعة لابد من رجحان حكم الشارع وقد كانت هناك عادات وتقاليد كثيرة قد أمضاها الشارع في المجتمعات، وهذا الإمضاء كان غالبا لالتقائها بالأطر الشرعية الخاصة وكونها مطابقة للمعايير الشرعية أو لتسهيل أمور الناس بشكل عام.

فالإمضاء الخاص مسألة فرعية يراعى فيها ظرف مركب من عدة أمور قد تقع مجتمعة أو منفردة، فيكون الحكم المتمخض منها خاصا مقيدا بشرط الظرف الخاص، كالقدرة والعقل وشروط المكلف التي تتسبب بالتسهيل للمكلف به، وعلى هذا يكون الإمضاء آنيا مشروطا ومقيدا، ومثل هذه التنازلات الشرعية المتدرجة مع الظرف حتى القدرة قد تصل لدرجة سقوط التكليف أو استثناءاته كالضرورات وأحكامها.

بقي الإمضاء بشكل عام، وهو مشروط بعدم المعارضة مع المسلمات والأحكام الشرعية بأي وجه من الوجوه، وقد استدل بعض من مذاهب المسلمين بأن الشريعة لم تمنع العمل ببعض الحدود الشرعية وأٌقرتها رغم كونها عرفية ، متناسين بذلك منع الشارع الأقدس لكثير من العرفيات عند العرب في كثير من مفاصل الحياة كحقوق النساء وغيرها من التشريعات التي حرمت الربا رغم تعارف الناس وتسالمهم عليه.

إن كثيرا من الجعليات الشرعية نسخت أعرافا عند الأمم بسبب حرمتها أو وراثتها من أديان وعقائد منحرفة كما وقد حرمت الشريعة كثيرا من العرفيات بلفظ صريح ورفضت عادتها حتى أٌقلع الناس عنها وهجروها تحت مظلة الشارع لنظم حياتهم ومعايشهم بما يتناسب مع الشارع الأقدس للاحتكام به.

ومن هنا يتبين للمتابع والمتتبع أن هذه العادات لم يمضها الشارع كليا بشكل عام دون معارض، وإنما لإمضائه شروط يجب توافرها لتُمضَى هذه العادات، فما وافق منها معايير الشريعة تم إمضاؤه وما خالف حرم العمل به فيكون الرجوع في العادات هذه للشارع كباقي التصرفات ولا يمكن تحكيمها على الشارع .

وهناك من يرى إمكانية إمضائها لمسانختها مع الشرع وقد مر أن منها ما هو مقبول ومنها ما هو مرفوض شرعا ولا يمكن العمل به، فلا مسانخة للمتعارضين بجانب أنها ليست عقلية بل قد تكون ظروفا بيئية قاهرة أجبرت العقلاء للاعتراف بها كالقوانين الوضعية التي لا علاقة لها بتنظيم حياة البشر فتكون الناس مجبورة للعمل بها خوفا من العقوبات والغرامات.

إن ادعاء التكلف على العباد والمشقة التي قد يتكبدها العبد إذا لم يتم تحكيم العادات نظر إليه الشارع، وقد تكلف سياق الامضاء الخاص بمراعاة الحالات الخاصة، ولكن الشارع الأقدس إن حكم بحكم عام فيجب العمل به ولا تكلف أكثر من ترك التكليف، فلا يمكن تصور هذا التكلف المدعى لمثل هذا الظرف، فما اختلف الشارع مع العرف يجب ترجيح حكم الشارع حال التعارض بين الأمرين.

وادعاء أن هذا مما قد يتسبب باختلال النظم المتعارفة بين الناس وحصول الفوضى مردود بأن العرف لم يكن ليصلح عبر بعض تقنيناته الغير منتظمة لتنظيم حياة البشر في القانون الوضعي فضلا عن الشرعي، وإن كان القانون الوضعي يمضي الأعراف إذا كانت من تقاليد دولة كاملة أو شعبا كاملة مراعاة لمشاعر الشعوب وتلبية لرضاها، و لكن الشارع يمضي منه ما يمكن أن يكون تنظيميا و يرفض ما يكون تدميريا، ولم تكن الشريعة الغراء في حال من الأحوال سببا لاختلال النظام، لأنها هي النظام.

لهذا لا يمكن تحكيم العادات بشكل عام لاختلال بعضها ورفضها من قبل الشارع بسبب موانع الجعل التي لا يمكن أن تمضيها بحال.

 

والحمد لله رب العالمين

 

ميرزا عباس العصفور

النجف الأشرف

 

أصالة العرف

بسم الله الرحمان الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين..

أصالة العرف

قد مر سابقا بأن بعض المذاهب الإسلامية تذهب لأصالة العرف لفظا أو في حال الإطلاق اللفظي، وقد جعلوه حاكما في كثير من الموارد عبر قواعد فقهية معينة قد فعلوها عندهم، ولكن الأصول التي ادعوها تختلف عن مدارك القواعد وقد تتعارض مع الشريعة في كثير من أصولها.

ولو تصفحنا بحوثهم المختلفة من الروايات التي أسندوها لوجدناهم ينزلون منزلة تسالم المسلمين لمنزلة الإجماع في دليليته وحجيته رغم اختلاف ذلك عن تسالم العقلاء القهري والظرفي في أحكامهم العرفية الخاصة، ولا يمكن تصويب جميع تصرفات المسلمين وإن تسالموا على أمر ليكون شريعة، فالقانون الوضعي عموما والشرائع المخترعة تكون عادة هي الوليدة لمثل هكذا سياق أو مدرك ولا يمكن أن تكون الشريعة السماوية السمحاء المنزلة من رب الأرباب مسرحا لمثل هذه التسالمات وإلا لكان العرف المصطنع عبر الإعلام وفرض القناعات مصدرا يؤخذ منه الدين والتشريع.

كما لا يمكن حمل عمل المسلم على الصحة في أصل التشريع، بل يحرم ذلك عليه ويعد مانعا، فأعمال المسلمين محمولة على الصحة في أحكامها الفرعية والفقهية على نحو تصويب التصرفات مما له لزوم في تسهيل حياة الناس وحسن الظن بهم، أما في الأصول والتشريع فالمصدر التشريعي واضح عبر مظانه المجعولة شرعا، ولا يمكن للتصرفات الشخصية والأحكام الفرعية أن تكون أصلا لتجعل كل تصرف يصدر من مسلم أصلا تشريعيا معينا من الشارع حيث تتسع رقعة التصويب لمديات لم يقل بها أحد!

وقد جنح البعض منهم لجعل العرف أصلا في ألفاظ الخطاب الشرعي، وحملوا كل ما يصدر من الشارع لمعناه العرفي، وقد ناقشنا سابقا الخلاف بين المعنى في العرف الخاص والعرف العام، ولكن ماذا لو جعل الشارع حدودا بقرائن منفصلة أو متصلة وحدد ذلك المعنى بحسب مقتضى الحال؟ ماذا لو كان المعنى العرفي معارضا للمعنى الشرعي وكان الشارع مانعا له؟!

إن من الألفاظ المتداولة ما هو محدد شرعا وما هو متروك للعرف ولم يتعرض الشارع لتعريفه، ولكن الشارع الأقدس قد جعل حدودا لماهيات موضوعاته وحسم صورتها بما يتناوله متعلق الحكم الشرعي، فالتحديد اللفظي العرفي لا يحدد الموضوع بقدر ما ينصرف إلى معانيه عبر مدركاته لمراد الشارع المحدد ومعناه، والتشخيص الموضوعي مداره الحمل الأولي والشايع .

نعم، ينصرف الشارع للمعنى العرفي إذا ما أخذت الألفاظ مأخذها في نزاعات الناس لتحديد النوع أو القيمة أو أي أمر تنصرف صورته الظرفية لواقع حاضر عند الناس، فالاتفاق على الدنانير تنصرف لعملة متعارفة في البلد، والاتفاق على المكيل والموزون بحسب ما هو متسالم في البلد عرفا …الخ، وهذا الانصراف هو من سيرة العقلاء والشارع سيدهم، كما وأن الناس تتعامل بالمتعارف عادة فيكون العرف قرينة لمرادهم ودعاواهم وألفاظهم المطلقة حيث تحمل على أصالة الظهور وحجية التبادر.

ومن هنا نعرف أن العرف لا يساهم في موارد التأسيس نظرا لكون تشخيصاته ظرفية ومقيدة وملزمة لمن تسالموا وتعارفوا عليها وليست ملزمة لجميع المسلمين حتى تصلح لأن تكون أصولا تشريعية أو وظيفة عملية في حال الشك، فكاشفيتها تكون على نحو ملزم تكليفا ووضعا، فلو تأملنا مثلا حد الماء المطلق وهو ما يستحق إطلاق اسم الماء عليه عرفا، لوجدنا المياه الملوثة بالطين قد تكون ماءا مطلقا في بلد وتكون مضافا في آخر باعتبار امتزاج الطين فيه قياسا بنظافة الماء فيها، وكذلك الاتفاق على عملة مطلقا أو كيلا أو عددا ينصرف تمييزه لما تسالم عليه أهل البلد ويكون ملزما لكبرويات متعارفة في التزاماتهم حيث أن هذا هو السياق المناسب لتسالمهم واتفاقهم وتعارفهم.

أما الوظيفة الشرعية في حال الشك والأصول العملية الأربعة فسياقها غير هذا السياق، لأنها تختص بالمجعول الشرعي وهي سياقات عقلية لإحراز الواقع أو إثباته، أما العرف فدوره تشخيصي وإلزامي خاص، قد نستصحب معنى عرفي سابق أو ننتقل للاحق ولكن ليس بالطريق العرفي بل بالوظيفة الشرعية..

الحمد لله رب العالمين

 

عباس العصفور

النجف الأشرف

كاشفية العرف

بسم الله الرحمان الرحيم

اختلفت المذاهب الإسلامية في تحديد مدى إمكانية كشف العرف للحكم الشرعي، ذهب الأحناف إلى كون متعينه ثابتا كالنص ، وذهب المالكية إلى كونه أصلا وحملوا كل لفظ مطلق إلى عرفه، وقال الشافعية بأن ما لم يحد فهو موكول للعرف في تحديده، والعادات عندهم محكّمة، وكذلك أرجع الحنابلة المطلق لتقييده بالعرف ..وهكذا.

ولكن الكاشفية والأمارية عادة تكون مسانخة للسياق العقلي ، ففي العرف _كما مر _ سياق عقلائي وتسالم عقلائي في أحد جوانبه، ولكن هذا التسالم تدخل فيه ملاكات الاستحسانات والملاءمة والمنافرة والمصالح الخاصة ومقتضياتها وليست مضبوطة ومحددة بالحسن والقبح الذاتيين الذين يلحظهما العقل مستقلا، وإنما تكون الأحكام بالضمائم الخاصة وتعديلها كذلك بما يتلاءم وتصرف العقلاء عادة.

وفي مثل هذا السياق من التعديل والتصويب العقلائي يمكن اعتباره في الشريعة إذا ما كان مقبولا وممضى من الشارع بحسب الأصول الشرعية بما استقل به العقل والشرع على نحوٍ ممضي، ولكن لم يمضِ الشارع كل تصرفات العقلاء العرفية نظرا لتفاوتهم في الحكم بحسب موازين الاستحسانات والتعديلات وحكم الظروف في ذلك ، بل يعد ذلك من تصرفات العقلاء التي يحكمها الشارع ويحتكمون إليها، فلا يمكن جعل الشارع مسرحا للعقول المتأثرة بالمحيط العرفي كما ولا يمكن جعل العرف حاكما على الشريعة على أي حال.

إن الكشف المدعى قد يختلف فيه العقلاء نظرا لاختلاف تسالمهم في المجتمعات عموما، كل حسب ظرفه، فبأيهم نقتدي في هذه الحالة؟ وهل يمكن تصور اختلاف الأحكام بشكل عام كحكم شرعي وظيفته الكشف ليصلنا للنتائج المتعددة، وهل يمكن تصورها واقعا جميعا؟ أم أن الكشف يتعدد كل بحسب مجتمعه وعرفه وتكون نتائجه هي الواقع ؟!

لربما يقال بأن الكشف هنا عبارة عن وظيفة شرعية وأصل لرفع الحيرة والشك لا أكثر، ولكن طريق الشارع الذي أمضاه هنا قد يختلف بحسب الملاك والسياقات الموضوعية، فالموضوع له حكمه الخاص والكشف عن ماهيته عقلي، وسياق الكشف عقلي بالحمل الأولي بحسب الهيئة والصورة، فما وظيفة تسالم العقلاء الكاشفة، وهل إرجاع المشكوك عرفا للأصل سياق عرفي ؟! سنتكلم عن ذلك في المقالات القادمة .

كذلك من ادعى الكشف العرفي للألفاظ يمر بنفس الأمر، فهناك عرفان في اللفظ ، عرف عام وهو المتداول بين الناس ، وعرف خاص وهو المتعارف عند أهل اللغة _كما مر_ وعند أهل المعاجم والقواميس، فالمتداول بين الناس قد يختلف باختلاف المجتمعات بحسب المعنى وهيئة وبنية الكلمة، كرواية عن النبي صلى الله عليه وآله : هل من امبر امصيام في امسفر؟ المعروفة حيث تم إرجاع الكلام للغة القوم لمعرفة أن أم تقوم مقام ال التعريف عندهم ، وهنا قد تفرد استخدامهم عن أهل المعاجم والعرف الخاص بأهل الخبرة في اللغة، ورجع العلماء في ذلك لتشخيصه من عرف القوم ولسان قبيلتهم فعرفوا المراد، وأحيانا قد يتغير الاستخدام العرفي من زمان لآخر فيرجعون فيه لزمان الأئمة وعصر النص ولكن ذلك شاق جدا بالنسبة لمن طبق ذلك، فإن لم تتوفر هذه الظروف والأمارات فهم يرجعون للعرف الخاص وهم أهل اللغة وتسالمهم، لا تسالم المجتمع عموما ، فالأصل هو عرف أهل اللغة والمجتمع لا يكون أصلا إلا بما يميزه وينفرد به، واختلافاته كثيرة معدودة قد تصدق على كثيرين وقد تصدق على معاني مختلفة، وبهذا يكون السياق كالسابق يحتاج لإمضاء الشارع لطريقة الوصول لمراده.

والحمد لله رب العالمين

 

 

عباس العصفور

النجف الأشرف

التشخيصات العرفية

تبين مما سبق عبر استقراء الحالات الاجتماعية ونظرة المتشرعة أن العرفيات المسلمة عند المجتمعات منها ما هو موروث تأريخي أو ديني كما أسلفنا سابقا، وكذلك منه ما هو ثابت وما هو متغير بحسب الحاجة الاجتماعية والدينية الخاصة، كما وأن منها ما هو تلقائي عفوي وما هو مدروس.

ومن العرف ما يتم الإقناع بالحاجة إليه على نحو الترغيب وإبرازه كنوع من أنواع الحلول لمشكلة ما في المجتمع عادة، وحينما يعجب الناس دوره ووضعه يتسالمون عليه ومن ثم يشيع استحسانه فيتعاملون به بينهم.

حينها تتدخل الشريعة من عدة وجوه مهمة على نحو تنظيمي وتشريعي حسب مقتضى الحال وبروز عناوين مختلفة تحتاج للتشريع لكونها متعلقات بأحكام تختص بتلك العناوين.

اشتبه كثيرون حينما اعتبروا بأن التسالم تحت عنوان التراضي كاف لتصحيح كافة المعاملات عبر السياقات والصور العرفية، وذلك _في نظرهم_ كافٍ لتغيير صور المعاملات عبر تحويلها لجعليات خاصة في صور التراضي دائما، ولكن ذلك قد يتوقف في حالات شرعية كثيرة كالربا والمعاملات المحرمة حيث وجود المانع الشرعي من التداول بهذه الصورة.

كما لا يمكن أن نحكم على خمرٍ مثلا بكونه خلا، إن كان مازال بحكم الخمرية شرعا ولم يستوفِ كافة شروط فساده ليحكم بكونه خلا ولو تسالمت الناس على ذلك.

نعم، قد يمضي الشارع بعض العرفيات والمعاملات حسب المقتضي وإن خالفت واقعا ما بشرط أن إمضاء أمثالها تكون لتدارك مصلحة عامة للمجتمع، ودفع مفسدة واقعية كبيرة بحال من الأحوال، ولكن العناوين المحرمة غير داخلة في مثل هذه الإمضاءات إلا في حال الاضطرار وهذه قضية شخصية للفرد وظرفية للمجتمع بلحاظ آخر مجموعي، لا يمكن جعلها عرفا أو قانونا عرفيا يعمل به دائما.

وقد يتغير الحكم الشرعي المتعلق بعنوان ما قد تم تشخيصه عرفا كلباس الشهرة مثلا، بحسب تغير التشخيصات، فما كان شاذا بالأمس قد يكون متعارفا اليوم، وما كان مكروها ومرفوضا قد يصبح مرغوبا بحسب ما يشيع ويشتهر بين الناس، فيصبح لباس الشهرة عاديا لا شهرة له فينتفي سبب المنع عنه.

كما قد تتغير ملابس الحداد للمتوفى عنها زوجها بحسب التسالم العرفي، فالمتعارف في النصوص الشرعية لبس الملابس الداكنة، ولكنها تتحول لملابس فاتحة في شرق آسيا حيث يتسالمون على جعل اللون الداكن للفرح والفاتح للحداد، فيتحقق عنوان الحداد الشرعي عندهم بلبس الأبيض.

فالحقائق الشرعية والمتشرعية تمثل واقعا حكميا وتشخيصا خاصا له طرقه الخاصة المختلفة عن التشخيص العرفي فلا يمكن جعل العرف حاكما أو مشخصا فيها بحال ولا التصرف بتحويلها لعناوين كي يغير متعلق الحكم الشرعي وإن كانت الحقيقة المتشرعية تخص عرف المتشرعة ولكن لتسالم ذلك العرف معاييره الخاصة المتمسكة بالسياق الشرعي وهذا يختلف عن السياق العرفي المجرد ..

 

والحمد لله رب العالمين

 

الميرزا عباس العصفور

النجف الأشرف

العرف المصطنع

بسم الله الرحمان الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

غالبا ما ينشأ العرف من القواعد البديهية أو المباني اللغوية الخاصة أو الطبائع المتحدة بين جماعة بجانب الاستدلال العقلي البسيط المعتمد على حب العدل وكره الظلم والمصالح والمفاسد على نحو من القضايا الشخصية تحفظ حقوق الأفراد مع مراعاة الجانب الفردي بما هو مع غض الطرف عن المصالح العامة تحصل بذلك أم لا، وإن كانت تحصل بتحصيل حاصل على الأغلب، فالمصلحة العامة لحاظها مصلحة الجميع وإن شذ في قاعدتها أطراف، والمصلحة الخاصة إن اجتمعت لمؤدى المصلحة العامة فذاك وإلا فلا تصلح أن تكون قانونا لشخصيتها وجزئيتها.

وقد تنشأ الأعراف من موروثات الأديان السابقة التي كانت تعتنقها فئة ما ولو من سنين بعيدة، ولو جهلت مصادر صدورها، حيث يبحث علماء الاجتماع ودارسوا الأديان عن مناشئها من هيئات مبانيها الكاشفة عن مصدريتها ومنبعها.

وقد تنشأ من تسالم أهل الفنون والمهن على طريقة معاملاتية معينة، كتحويل المقاييس وتفضيل الصفات لغيرها بحسب تغيير المرغوبيات والخصائص الخارجية للأشياء كل بحسبه.

ولكن قد تتفق فئة ما على نقل الأعراف أو نسخها بعرف جديد على ما تقتضيه المصلحة وبحجة دفع الضرر أو اكتشاف عدم جدوائية العرف السابق مع التطورات والمستجدات الحاصلة في نواحي الحياة المختلفة.

وهنا ثلاث صور:

الصورة الأولى:

حين يغلب الجانب البديهي على الجانب العرفي رغم تسالماته نظرا لكون الملاك العقلي الفطري واضحا فيه ويشترك في تسالمه جميع العقلاء لو خليناهم وطبعهم من جهة، وسبق كون العقل هو الحاكم على العمل به قبل التسالم على إمضائه اجتماعيا فعليا ، حيث تكون الأقيسة المباشرة حاضرة منطقيا وقياس الأولوية حاضر شرعا.

أما الألفاظ والمباني اللغوية فهي موضوعة من قبل المجتمع على نحو إيجاد المعاني فما يحصل فيها من تغيير فهو في مباني اللفظ خاصة.

في الصورة الثانية:

إن الشريعة الإسلامية السمحاء قد نسخت كافة الأديان السماوية التي سبقتها وما كان منسوخا فقد هجر التعبد به، ولكن هناك ما هو مستمر من الأديان وقد أمضته الشريعة الإسلامية كونها امتدادا لعبادة رب الأرباب الواحد الأحد واتحاد المشرع والمعبود..

فما كان ماضيا من الشرع فهو ماضٍ وما هو منسوخ فقد وجب تركه والتعبد بالشريحة الناسخة وهجر الشرائع المنسوخة وعدم إحياءها في العادات والتقاليد أبدا.

في الصورة الثالثة:

فالتسالم فيها يكون سببا لحفظ المصالح المعيشية والبشرية من جهة الإدراك العقلي بين المتعاملين باعتبار أنها وضعت لمصلحة ما، فتتدخل الشريعة فيه لحفظ وتنظيم مصالح الناس.

 

ولكن اذا اتفقت أو تسالمت فئة ما على جعل عرف جديد من حيثيات وجهات معينة فإنه ينحو المنحى اللفظي في الشياع، كمنحى أي وضع جديد يحتاج للتعيين حتى يشيع فيتعين، فيتدرج نحو الفناء في المعنى التسالمي العرفي على نحو الشياع المستلزم لهجران الوضع الالتزامي والتقنيني السابق إن كان له معنى سابقا أو بروزه كقانون أو معنى جديد إن كان مستجدا..وهكذا..

فلا يمكن للشريعة الاعتداد به كعرف من حين ولادته حتى يصبح عرفا فعلا، فنتمكن من البناء عليه كعنوان عرفي بأي نحو أو جهة، لأن الأحكام الشرعية تتعلق بالمعنون بعد وجوده أو إيجاده في الخارج حتى يمكن البناء عليه وانطباق وجوده في الخارج على مفهومه العنواني، فلا يمكن التعامل مع الشايع قبل حمله أوليا.

ويتحصل من هذا كله أنه ليس كل ما شاع بين الناس يعد عرفا إن لم يتسالموا على العمل به ولا العكس، بمعنى آخر، أن ليس كل متسالم عليه يعد عرفا إن لم يحصل على مرتبة الشيوع مقارنة بالعمل به.

 

والحمد لله رب العالمين

ميرزا عباس العصفور

النجف الأشرف