أرشيف التصنيف: أدعية الآيات

رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

الحلقة الثلاثون

بسم الله الرحمن الرحيم

{رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة المؤبدة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

هذا الدعاء في هذه الآية الكريمة من أدعية نبي الله موسى عليه السلام، يحمل في معانيه ومضمونه التوسل التام لله عز وجل، ويعطي كمال الطلب بين العبد وربه في النجاة مما هو فيه من كرب.

وقد بين المفسرون في تفاسيرهم قصة هذه الآية الكريمة ومنهم:
صاحب تفسير الميزان رحمه الله قال:

قوله تعالى: « فَخَرَجَ مِنْهٰا خٰائِفاً يَتَرَقَّبُ قٰالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ‌ » فيه تأييد أنه ما كان يرى قتله القبطي خطأ جرما لنفسه.

ففي تفسير القمي، قال “:فلم يزل موسى عند فرعون في أكرم كرامة حتى بلغ مبلغ الرجال و كان ينكر عليه ما يتكلم به موسى عليه السلام، من التوحيد حتى هم به فخرج موسى من عنده، و دخل المدينة فإذا رجلان يقتتلان أحدهما يقول بقول موسى ، و الآخر يقول بقول فرعون، فاستغاثه الذي من شيعته فجاء موسى فوكز صاحب فرعون فقضى عليه و توارى في المدينة. فلما كان الغد جاء آخر فتشبث بذلك الرجل الذي يقول بقول موسى فاستغاث بموسى فلما نظر صاحبه إلى موسى قال له. أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمٰا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ‌ ؟ فخلى عن صاحبه و هرب.

و في العيون، بإسناده إلى علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الإمام الرضا عليه السلام فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أليس من قولك: إن الأنبياء معصومون‌؟
قال: بلى.
قال: فأخبرني عن قول الله: «فَوَكَزَهُ مُوسىٰ فَقَضىٰ عَلَيْهِ قٰالَ هٰذٰا مِنْ‌ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ‌ » قال الإمام الرضا عليه السلام: إن موسى عليه السلام دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها و ذلك بين المغرب و العشاء فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته و هذا من عدوه فقضى على العدو بحكم الله تعالى ذكره فوكزه فمات، قال: هٰذٰا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ يعني الاقتتال الذي وقع بين الرجلين لا ما فعله موسى عليه السلام من قتله « إِنَّهُ‌ » يعني الشيطان « عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ‌». قال المأمون: فما معنى قول موسى: « رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي»؟
قال عليه السلام: يقول: وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة فاغفر لي أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني فغفر له إنه هو الغفور الرحيم.

قال موسى: رب بما أنعمت علي من القوة حتى قتلت رجلا بوكزة فلن أكون ظهيرا للمجرمين بل أجاهدهم بهذه القوة حتى ترضى.
فأصبح موسى عليه السلام، في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه على آخر قال له موسى إنك لغوي مبين قاتلت رجلا بالأمس و تقاتل هذا اليوم لأؤدبنك، وأراد أن يبطش به فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما، و هو من شيعته قٰالَ‌: يٰا مُوسىٰ أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمٰا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ؟ إِنْ تُرِيدُ إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ‌ جَبّٰاراً فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْمُصْلِحِينَ‌ .
قال المأمون: جزاك الله عن أنبيائه خيرا يا أبا الحسن.
وعلى هذا قول أكثر المفسرين.

العبد المؤمن يدعو الله بهذا الدعاء في كل شدة تلم به وهذا الدعاء خلده الله في كتابه الى قيام الساعة، ليحفظه عباده المخلصون، ويستذكرون ويتباحثون من نطق به غير نبي الله موسى عليه السلام لتدمع أعينهم على قائل غيره، وهو : سبط النبي صلى الله عليه وآله وابو الأئمة عليهم السلام، الامام الحسين عليه السلام،
عندما كان الخطر عليه، ولم يكن يزيد ليحترم المدينة، وقد قام بواقعة الحرَّة بعد واقعة كربلا، وهو مَن كتب بعد هلاك معاوية إلى واليه على المدينة الوليد بن عتبةَ بن أبي سفيان أن يأخذ الإمام الحسين – عليه السَّلام – بالبيعة له ولا يرخص له في التأخر عن ذلك، حتى جرت بين الإمام – عليه السلام – ومروان – وكان حاضراً ذلك المجلس – مناوشةٌ بالكلام، وكان قد أشار على الوليد أن لا يسمح للإمام الحسين – عليه السَّلام – بالخروج قائلاً:” والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا حتى يكثر القتلى بينكم وبينه ، احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه”فها أنت ترى أنَّهم خيَّروه ،عليه السلام ،بين السلّة ،وهي القتل ،والذلَّة ،وهي البيعة، فخرج ،عليه السلام – بعد يومين من مدينة جدّه صلى الله عليه وآله ،وهو يتلو قوله تعالى:”فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ”ليطابق لسانُ المقال لسانَ الحال.

نعم هم صفوة الخلق، وحجج العباد، وسفن النجاة، وخير من أقلته الأرض وأظلته السماء بعد جدهم الأعظم صلى اللّه عليه وآله حسباً ونسباً وفضائل وأمجاداً.
وكيف يرتضي الوجدان السليم محبة النبي صلى اللّه عليه وآله دون أهل بيته الطاهرين عليهم السلام، الجديرون بأصدق مفاهيم الحب والود، وإنها بلاريب محبة زائفة تنمّ عن نفاق ولؤم، كما جاء عن عبد اللّه بن مسعود قال: كنا مع النبي صلى اللّه عليه وآله في بعض أسفاره، إذ هتف بنا أعرابي بصوت جمهور، فقال: يا محمد.
فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله: ما تشاء؟
فقال: المرء يحب القوم ولا يعمل بأعمالهم.
فقال النبي صلى اللّه عليه وآله: المرء مع من أحب.
فقال: يا محمد، اعرض عليَّ الإسلام.
فقال: إشهد أن لا إله الا اللّه، وأني رسول اللّه، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت.
فقال: يا محمد، تأخذ على هذا أجرأ؟
فقال: لا، إلا المودة في القربى.
قال: قرباي أو قرباك؟
فقال: بل قرباي.
قال: هلمّ يدك حتى أبايعك، لا خير فيمن يودّك ولا يودّ قرباك.

ويروى عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله للحسن والحسين عليهما السلام: من أحبهما أحببته، ومن أحببته أحبه الله، ومن أحبه الله أدخله جنات النعيم، ومن أبغضهما أو بغى عليهما أبغضته، ومن أبغضته أبغضه الله، ومن أبغضه الله أدخله عذاب جهنم وله عذاب مقيم.
ونحن في هذا اليوم الأخير من هذا الشهر الفضيل الذي انقضى عنا نسأل الله العلي القدير أن يجعلنا ممن يتولا العترة الطاهرة ويحبها لنكون مصداق قول ما روي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أراد الله به الخير قذف في قلبه حب الحسين عليه السلام وحب زيارته، ومن أراد الله به السوء قذف في قلبه بغض الحسين عليه السلام وبغض زيارته.
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.

ربِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ

الحلقة التاسعة والعشرون

بسم الله الرحمن الرحيم

{ربِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة المؤبدة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

هذا الدعاء في هذه الآية الكريمة مما أخبر الله به نبيه صلى الله عليه وآله، من أدعية المؤمنين وخلده الله تعالى في كتابه الكريم ليكون عمل العبد الراجي لقاءه من التوسل لله وبأسمائه الحسنى، أن يُسدّده ويُوفقه في الأقوال والأفعال.

اختلفت الدلالة على من هو المخاطب عند المفسرين، وتلاقت عند المعنى لتعطي من عبق عبيرها روائع الكلم، فقال صاحب تفسير الميزان رحمه الله:

قوله تعالى: « وَ قُلْ رَبِّ اِغْفِرْ وَ اِرْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرّٰاحِمِينَ‌ » خاتمة السورة و قد أمر فيها النبي ص أن يقول ما حكاه عن عباده المؤمنين أنهم يقولونه في الدنيا و أن جزاء ذلك هو الفوز يوم القيامة: « إِنَّهُ كٰانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبٰادِي يَقُولُونَ‌ » الآيتان 109 و 111 من السورة. و بذلك يختتم الكلام بما افتتح به في أول السورة: « قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُونَ‌».
وما قاله صاحب مجمع البيان:
«وَ قُلْ‌» يا محمد «رَبِّ اِغْفِرْ» الذنوب «وَ اِرْحَمْ‌» و أنعم على خلقك «وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرّٰاحِمِينَ‌» أي أفضل المنعمين و أكثرهم نعمة و أوسعهم.

وما قال صاحب التبيان في تفسيره:
ثم أمر نبيه (صلى الله عليه وآله) فقال له «قل» يا محمد «رَبِّ اِغْفِرْ وَ اِرْحَمْ‌» أي اغفر الذنوب، و أنعم على خلقك. «وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرّٰاحِمِينَ‌» معناه أفضل من رحم و أنعم على غيره، و أكثرهم نعمة و أوسعهم فضلا.

يُعتبرُ الإيمان هو الصلِّة بين العبد وربه، فيبقى من خلاله متصلاً بالله متعبداً إليه، ويرجع إليه في النائبات والشدائد، وقد فطر الله الخلق على هذه العلاقة حتى يكون العبد في استقرار نفسي وإشباع روحي.
كل مؤمن في إشفاقه على نفسه يبحث عن الإيمان الذي أراده الله منه، متوقفا على المعرفة التي يريدها، فتكون النتيجة من خلال الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام، نظرا لتعلق الإيمان الحقيقي بهم، وتعلق الرحمة والمغفرة في معرفة حقيقة الإيمان.
روي عن الإمام الصادق عليه السلام: إن الناس يعبدون الله عزّ وجلّ على ثلاثة أوجه :
فطبقة يعبدونه رغبة إلى ثوابه فتلك عبادة الحرصاء وهو الطمع .. وآخرون يعبدونه خوفاً من النار فتلك عبادة العبيد وهي الرهبة .. ولكنّي أعبده حبًا له فتلك عبادة الكرام وهو الأمن ، لقوله تعالى :
{وهم من فزع يومئذٍ آمنون } {قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} ، فمن أحب الله عزّ وجلّ أحبه الله ، ومن أحبه الله عزّ وجلّ كان من الآمنين.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال في خطبة له: هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى.

ولقد كان أصحاب الأئمة عليهم السلام المخلصين من الثابتين على الإيمان والولاية، والذين صدقوا مع أهل البيت عليهم السلام رغم الترهيب والترغيب، وهذا النموذج منه ميثم التمار الذي كان من خواص أمير المؤمنين عليه السلام ، فإنّه ما زال يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحدّث بفضائل أهل البيت عليهم السلام وأمير المؤمنين عليه السلام ومثالب أعدائهم أمثال ابن زياد، حتى أمر الأخير بإحضاره فأُدخل عليه فقيل: هذا كان من آثر الناس عند علي.
قال: ويحكم هذا الأعجمي؟! قيل له: نعم.
قال له عبيدالله: أين ربّك؟
قال: بالمرصاد لكل ظالم وأنت أحد الظلمة.
قال: إنّك على عُجمتك لتبلغ الذي تريد، ما أخبرك صاحبك أنّي فاعل بك؟
قال: أخبرني أنّك تصلبني عاشر عشرة، أنا أقصرهم خشبةً وأقربهم من المطهرة.
قال: لنخالفنّه.
قال: كيف تُخالفه؟! فوالله ما أخبرني إلّا عن النبيّّ صلى الله عليه وآله وسلم عن جبرئيل عن الله تعالى، فكيف تخالف هؤلاء!؟ ولقد عرفت الموضع الّذي أُصلب عليه أين هو من الكوفة، وأنا أوّل خلق الله أُلجم في الإسلام.
وأمر ابن زياد بميثم أن يصلب، فأُخرج فقال له رجل لَقِيَه: ما كان أغناك عن هذا يا ميثم!
فتبسّم وقال وهو يومئ إلى النخلة: لها خُلقت ولي غُذّيت.
فجعل ميثم يحدّث بفضائل بني هاشم،
فقيل لابن زياد: قد فضحكم هذا العبد.
فقال: ألجموه.
فكان أوّل خلق الله أُلجم في الإسلام.

ونحن في هذه الأيام المباركة نسأله الله أن يجعلنا من الثابتين على الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام.
لتصدح حناجر المؤمنين بدعاء الإمام الصادق عليه السلام في الثبات قال:
اَللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَابْعَثْني عَلى الإيمانِ بِكَ وَالتَّصْديقِ بِرَسُولِكَ عَلَيْهِ وَالِهِ السَّلامُ، وَالوِلايَةِ لِعَليٍّ ابْنُ أَبي طَالِبٍ، وَالبَراءَةِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَالإِيتِمامِ بِالاَئِمَّةِ مِنْ آلِ مُحَمٍَّد عَلَيْهِمُ السَّلامُ، فَإنّي قَدْ رَضِيتُ بِذلِكَ يا رَبِّ.
اَللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ في الاَوَّلينَ، وَصَلِّ عَلى مُحّمَّدٍ في الاخِرينَ، وَصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ في المَلأِ الاَعْلى، وَصَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ في الْمُرْسَلينَ، اَللّهُمَّ إعْطِ مُحَمَداً الوَسِيلَةَ وَالشَّرَفَ وَالْفَضيلَةَ وَالدَّرَجَةَ الْكَبيرَةَ.
اَللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَقَنِّعْني بِما رَزَقْتَني، وَبارِكْ لي فيما أَعْطَيْتَني، وَاحْفَظْني في غَيْبَتي، وَفي كُلِّ غائِبٍ هُوَ لي.

وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.

رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ

الحلقة الثامنة والعشرون

بسم الله الرحمن الرحيم

{رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا}.

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة المؤبدة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
هذا الدعاء في هذه الآية الكريمة من الأدعية التي أمر الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يذكرها ،وفي معانيه ومضمونه حلاوة الارتباط بين العبد وربه.

اختلف أهل التفسير في تأويل هذه الآية الكريمة وتعدد فمنهم :

من قال: و قوله: « وَ اِجْعَلْ‌ لِي مِنْ‌ لَدُنْكَ‌ سُلْطٰاناً نَصِيراً » أي سلطنة بنصرتي على ما أهم به من الأمور و أشتغل به من الأعمال فلا أغلب في دعوتي بحجة باطلة، ولا افتتن بفتنة أو مكر يمكرني به أعداؤك، و لا أضل بنزغ شيطان ووسوسته.

و الآية كما ترى مطلقة تأمر النبي صلى الله عليه وآله أن يسأل ربه أن يتولى أمره في كل مدخل و مخرج بالصدق، و يجعل له سلطانا من عنده ينصره فلا يزيغ في حق، و لا يظهر بباطل، فلا وجه لما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالدخول و الخروج دخول المدينة بالهجرة و الخروج منها إلى مكة للفتح، أو أن المراد بهما دخول القبر بالموت و الخروج منه بالبعث.
وهذا قول صاحب تفسير الميزان رحمه الله.

وأما قول صاحب مجمع البيان رحمه الله:
«رَبِّ‌ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ‌ صِدْقٍ‌ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ‌ صِدْقٍ‌» المدخل و المخرج هنا مصدر الإدخال و الإخراج فالتقدير أدخلني إدخال صدق و أخرجني إخراج صدق و في معناه أقوال :
(أحدها) أن المعنى أدخلني في جميع ما أرسلتني به إدخال صدق و أخرجني منه سالما إخراج صدق أي أعني على الوحي و الرسالة عن مجاهد.
(وثانيها) أن معناه أدخلني المدينة و أخرجني منها إلى مكة للفتح عن ابن عباس و الحسن و قتادة و سعيد بن جبير .
(و ثالثها) أنه صلى الله عليه وآله أمر بهذا الدعاء إذا دخل في أمر أو خرج من أمر، و المراد أدخلني كل أمر مدخل صدق، عن أبي مسلم .
(و رابعها) أن المعنى أدخلني القبر عند الموت مدخل صدق وأخرجني منه عند البعث مخرج صدق، عن عطية عن ابن عباس ، و مدخل الصدق ما تحمد عاقبته في الدنيا و الدين و إنما أضاف الإدخال و الإخراج إليه سبحانه و إن كانا من فعل العبد لأنه سأله اللطف المقرب إلى خير الدين والدنيا.

إن المؤمن بعد معرفته لمدخل الصدق ومخرج الصدق في الدنيا والآخرة يراجع نفسه في التمسك بآل البيت عليهم السلام، وإذا راجع وصايا الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم للإمام أمير المؤمنين عليه السلام، ووصايا الأئمة بعضهم لبعض، ووصاياهم للخواص من شيعتهم، والخلّص من مواليهم، ووصاياهم البليغة جدّاً التي كانوا يوصون بها محبّيهم، ويُحذّرونهم من معصية الله تعالى والتأكيد عليهم في الابتعاد عن مخالفة الله سبحانه في أصول الأحكام وفروعها، والمدوّنة في كتب الأخبار، يعرف أن كل مدخل ومخرج مرتبط بهم عليهم السلام.
وإذا أراد المؤمن الدخول الصادق والخروج الصادق الذي يعطيه كل خير من تلك الأمور إقامة الشعائر، فهي التي أوصانا الله بها ورسوله الكريم صلى الله عليه وآله والأئمة بإحيائها، وقد وردت أحاديث عن أهل بيت العصمة.
روى عبد الله بن مسعود، قال: “أتينا رسول الله صلى الله عليه وآله، فخرج إلينا مستبشراً يُعرف السرور في وجهه، فما سألناه عن شيء إلّا أخبرنا به، ولا سكتنا إلّا ابتدأنا، حتّى مرّت فتية من بني هاشم فيهم الحسن والحسين عليهما السلام، فلمّا رآهم التزمهم وانهملت عيناه.
فقلنا: يا رسول الله، ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه.
فقال: إنّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإنّه سيلقى أهل بيتي من بعدي تطريداً أو تشريداً في البلاد.
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: رحم الله شيعتنا، شيعتنا والله المؤمنون، فقد والله شركونا في المصيبة بطول الحزن والحسرة.

المؤمن في معرفته بما في الروايات من تأكيد استمرارية ذكر مصيبة الحسين (عليه السلام) والمواظبة عليها.
عن داوود الرقي، قال: “كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذا استسقى الماء، فلمّا شربه رأيته قد استعبر واغرورقت عيناه بدموعه، ثمّ قال لي: يا داوود، لعن الله قاتل الحسين (عليه السلام)، وما من عبد شرب الماء فذكر الحسين (عليه السلام) وأهل بيته، ولعن قاتله، إلّا كتب الله} له مائة ألف حسنة، وحطَّ عنه مائة ألف سيّئة، ورفع له مائة ألف درجة، وكأنّما أعتق مائة ألف نسمة، وحشره الله} يوم القيامة ثلج الفؤاد.
ونحن في هذه الأيام المباركة نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يقيمون الشعائر ، بصدق الفعل والعمل فنقول في دعائنا بتعجيل الفرج لصاحب العصر والزمان عجل الله فرجه كما قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) في دعاء له : اللهم صل على محمد وآل محمد ، وعلى إمام المسلمين ، واحفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته ، وافتح له فتحا يسيرا ، وانصره نصرا عزيزا ، واجعل له من لدنك سلطانا نصيرا . اللهم عجل فرج آل محمد ، وأهلك أعداءهم من الجن والإنس.
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.

رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ

الحلقة السابعة والعشرون

بسم الله الرحمن الرحيم

{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}.

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة المؤبدة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
هذا الدعاء في هذه الآية الكريمة من أدعية أهل الإيمان المخلصين الذين ذكرهم الله في كتابه العزيز، وقد دلت دعواتهم على غاية الأهمية من المحبة والتآخي في قلوب المؤمنين، فإن حقوق المؤمن على المؤمن كثيرة، ومنها الدعاء له في غيبته أي في حياته وبعد موته.
فجمعوا في هذه الدعوة المباركة بين سلامة القلب، وسلامة الألسن، فليس في قلوبهم أي ضغينة، ولا وقيعة، ولا استنقاص لأحد بالذكر في اللسان، دلالة على اجتماع المحبّة الصادقة للَّه ربِّ العالمين.
وقد ذكر المفسرون الدلالة في هذه الآية ، منهم:
١- صاحب تفسير الميزان :
دعاء لأنفسهم و السابقين من المؤمنين بالمغفرة، و في تعبيرهم عنهم بإخواننا إشارة إلى أنهم يعدونهم من أنفسهم كما قال الله تعالى: «بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ‌» : النساء: 25، فهم يحبونهم كما يحبون أنفسهم و يحبون لهم ما يحبون لأنفسهم. و لذلك عقبوه بقولهم: « وَ لاٰ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنٰا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنٰا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ‌ » فسألوا أن لا يجعل الله في قلوبهم غلا للذين آمنوا و الغل العداوة.
و في قوله: « لِلَّذِينَ آمَنُوا » تعميم لعامة المؤمنين منهم و ممن سبقهم و تلويح إلى أنه لا بغية لهم إلا الإيمان.

٢- قول صاحب مجمع البيان:
أي يدعون و يستغفرون لأنفسهم و لمن سبقهم بالإيمان «وَ لاٰ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنٰا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا» أي حقدا و غشا و عداوة، سألوا الله سبحانه أن يزيل ذلك بلطفه، و هاهنا احتراز لطيف، و هو أنهم أحسنوا الدعاء للمؤمنين و لم يرسلوا القول إرسالا، و المعنى اعصمنا ربنا من إرادة السوء بالمؤمنين، و لا شك أن من أبغض مؤمنا و أراد به السوء لأجل إيمانه فهو كافر، و إذا كان لغير ذلك فهو فاسق.

تلاقي العبارات من المفسرين التي تعطي البيان من أقوالهم حوا حقوق المؤمن على أخيه المؤمن كثيرة ، فالعبد يتطلع لما قد ورد في كتاب الله العزيز وأحاديث أهل البيت عليهم السلام في مثل هذه الحقوق ليتعلمها ويعمل بها لتكون نورا يسعى أمامه فيضئ دربه في الدنيا والآخرة.

روي عَنِ اَلْمُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اَللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَا حَقُّ اَلْمُؤْمِنِ عَلَى اَلْمُؤْمِنِ قَالَ عليه السلام: إِنِّي عَلَيْك شَفِيقٌ إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَعْلَمَ وَ لاَ تَعْمَلَ وَ تُضَيِّعَ وَ لاَ تَحْفَظَ ، فَقُلْتُ :لاَ حَوْلَ وَ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ قَالَ عليه السلام : لِلْمُؤْمِنِ عَلَى اَلْمُؤْمِنِ سَبْعَةُ حُقُوقٍ وَاجِبَةٍ وَ لَيْسَ مِنْهَا حَقٌّ إِلاَّ وَ هُوَ وَاجِبٌ عَلَى أَخِيهِ إِنْ ضَيَّعَ مِنْهَا حَقّاً خَرَجَ مِنْ وَلاَيَةِ اَللَّهِ وَ تَرَكَ طَاعَتَهُ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا نَصِيبٌ أَيْسَرُ حَقٍّ مِنْهَا أَنْ تُحِبَّ لَهُ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ وَ أَنْ تَكْرَهَ لَهُ مَا تَكْرَهُهُ لِنَفْسِكَ وَ اَلثَّانِي أَنْ تُعِينَهُ بِنَفْسِكَ وَ مَالِكَ وَ لِسَانِكَ وَ يَدَيْكَ وَ رِجْلَيْكَ وَ اَلثَّالِثُ أَنْ تَتَّبِعَ رِضَاهُ وَ تَجْتَنِبَ سَخَطَهُ وَ تُطِيعَ أَمْرَهُ وَ اَلرَّابِعُ أَنْ تَكُونَ عَيْنَهُ وَ دَلِيلَهُ وَ مِرْآتَهُ وَ اَلْخَامِسُ أَنْ لاَ تَشْبَعَ وَ يَجُوعَ وَ تَرْوَى وَ يَظْمَأَ وَ تَكْتَسِيَ وَ يَعْرَى وَ اَلسَّادِسُ أَنْ يَكُونَ لَكَ خَادِمٌ وَ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ وَ لَكَ اِمْرَأَةٌ تَقُومُ عَلَيْكَ وَ لَيْسَ لَهُ اِمْرَأَةٌ تَقُومُ عَلَيْهِ أَنْ تَبْعَثَ خَادِمَكَ يَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَ يَصْنَعُ طَعَامَهُ وَ يُهَيِّئُ فِرَاشَهُ وَ اَلسَّابِعُ أَنْ تُبِرَّ قَسَمَهُ وَ تُجِيبَ دَعْوَتَهُ وَ تَعُودَ مَرْضَتَهُ وَ تَشْهَدَ جَنَازَتَهُ وَ إِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ تُبَادِرُ مُبَادَرَةً إِلَى قَضَائِهَا وَ لاَ تُكَلِّفْهُ أَنْ يَسْأَلَكَهَا فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ وَصَلْتَ وَلاَيَتَكَ بِوَلاَيَتِهِ وَ وَلاَيَتَهُ بِوَلاَيَتِكَ .

والمكانة التي اعطيت للأخوة حيث آخى النبي (صلى الله عليه وآله) بين المهاجرين والأنصار في يثرب بعد هجرة النبي (صلى الله عليه وآله) لها من مكة واتخاذها عاصمة للدولة الإسلامية ومنطلقا للدعوة المحمدية، فجاء في ما على كل مؤمن تجاه أخيه المؤمن من حقوق في شتى المجالات في أحاديث أهل البيت (عليه السلام) كما قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): الإخوان في الله تعالى تدوم مودتهم لدوام سببها.

ومن الأمور المهمة التي على العبد فعلها هو الاجتناب عن ظلم أخيه المؤمن.
روي عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام قال: أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في قوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}: يا معاشر شيعتنا اتّقوا الله واحذروا أن تكونوا لتلك النار حطباً وإن لم تكونوا بالله كافرين، فتوقّوها بتوقّي ظلم إخوانكم المؤمنين، وإنّه ليس من مؤمن ظلم أخاه المؤمن المشارك له في موالاتنا إلاّ ثقّل الله تعالى في تلك الدار سلاسله وأغلاله ولم يُقِلْه بفكِّه منها إلاّ بشفاعتنا، ولن نشفع له إلى الله تعالى إلاّ بعد أن نشفع له في أخيه المؤمن، فإن عفا عنه شفعنا وإلاّ طال في النار مكثه.

النظر الى وجه أخيه المؤمن:
روي عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): نظر المؤمن في وجه أخيه المؤمن حبا له عبادة.

وحكى الإمام الصادق عليه‌ السلام لأصحابه ، ما قاله جده الرسول صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله ، في فضل دعاء المؤمن ، لإخوانه المؤمنين.
روي عن الإمام الصادق عليه‌ السلام أنه قال: قال رسول الله صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله : ما من مؤمن دعا للمؤمنين والمؤمنات ، إلا رد الله عز وجل عليه ، مثل الذي دعا لهم به ، من كل مؤمن ومؤمنة ، مضى من أول الدهر ، أو هو آت إلى يوم القيامة ، إن العبد ليؤمر به إلى النار يوم القيامة فيسحب ، فيقول المؤمنون والمؤمنات : يا رب ، هذا الذي كان يدعو لنا ، فشفعنا فيه ، فيشفعهم الله عزوجل فيه ، فينجو .

وقد تضمنت هذه الدعوة فوائد:

أهمية هذه الدعوة المباركة التي ينبغي لكل للعبد المؤمن الإكثار منها في ليله ونهاره، فإن ثمارها ومنافعها لا تُحصى في الدنيا والآخرة.

أن من أعظم حقوق المؤمن على المؤمن الدعاء .
أهمية سؤال اللَّه تبارك وتعالى المغفرة؛ لأن من عظيم ثمارها زوال السيئات والمكروهات، وحصول النعم والخيرات، والفوز بالجنات.
ينبغي للمؤمن ألا ينسى فضل من سبقه بالإيمان، فيذكره بالثناء والدعاء.
جمع هذا الدعاء توسلين جليلين من التوسلات المهمة، وهما: التوسل إليه بربوبيته، كما في قوله: ﴿رَبَّنَا﴾، وباسمين من أسمائه الحسنى: ﴿رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ .

ونحن نسأل الله في هذه الأيام المباركة والشهر الكريم التي انقضت أكثر أيامه وبقي القليل أن تغفر لنا وترحمنا، وتجعل إخوتي المؤمنين من عتقائك من النار ،
وتجعلني وإياهم من الذين صدحت حناجرهم بالدعاء لوليك القائم المنتظر عجل الله فرجه ،فقالوا:
اللهم صل على حجّتك في أرضك ، وخليفتك في بلادك ، والداعي إلى سبيلك ، والقائم بقسطك ، والثائر بأمرك ، ولي المؤمنين ، وبوار الكافرين ، ومجلي الظلمة ، ومنير الحق ، والساطع بالحكمة والصدق ، وكلمتك التامّة في أرضك ، المرتقب الخائف ، والولي الناصح ، سفينة النجاة ، وعلم الهدى ، ونور أبصار الورى ، وخير من تقمّص وارتدى ، ومجلي العمى ، الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً ، كما ملأت ظلماً وجوراً ، إنّك على كل شيء قدير .
اللهم صل على وليك وابن أوليائك الذين فرضت طاعتهم ، و أوجبت حقّهم ، وأذهبت عنهم الرجس ، وطهّرتهم تطهيراً .

وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.

رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ

الحلقة السادسة والعشرون

بسم الله الرحمن الرحيم

{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة المؤبدة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
الدعاء في هذه الآية الكريمة، من الأدعية الجامعة في التقرب إلى الله والتوسل إليه، وتحمل في معاني ومضامين عالية ينبغي للعبد الاستفادة فيها في الدنيا حتى يرتقي في التوفيق في الشكر والبر والعمل الصالح وتجديد عهد الطاعة لله.

العبد في عبادته لله يحتاج إلى ما يفرغ قلبه من التمسك الحسن في طاعة الله، فيلجأ إلى الدعاء، و يسأل الله أن يلهمه الثناء عليه بإظهار نعمته قولاً وفعلاً، أما قولاً فظاهر، وأما فعلاً فباستعمال هذه النعم استعمالاً يظهر به أنها لله سبحانه أنعم بها عليه وليست له من قبل نفسه، ولازمه ظهور العبودية والمملوكية من هذا العبد في قوله وفعله جميعاً.
وتفسير النعمة بقوله: {التي أنعمت عليّ وعلى والديّ} يفيد شكره من قبل نفسه على ما اختص به من النعمة، ومن قبل والديه فيما أنعم به عليهما، فهو لسان ذاكر لهما بعدهما.
فإن الشكر يحلي ظاهر الأعمال، والصلاحية التي يرتضيها الله تعالى تحلّي باطنها وتخلّصها له تعالى.
روي عن الإمام أبي الحسن علي بن محمد الهادي (عليه السلام) قوله: “القوا النعم بحسن مجاورتها، والتمسوا الزيادة فيها بالشكر عليها.

ومن التربية الحقيقية التي أنعم الله على العبد فيها أن يتعلم من مدرسة أهل البيت عليهم السلام كيفية الشكر، فحفظها علماؤنا الأبرار، وعلموها للناس، كي تكون العبادة الحقة مستمرة في هذا الطريق الجليل.
يقول المحقق الطوسي قدس سره: “الشكر أشرف الأعمال وأفضلها، واعلم أن الشكر مقابلة النعمة بالقول والفعل والنية وله أركان ثلاثة:
الأول: معرفة المنعم وصفاته اللائقة به، ومعرفة النعمة من حيث إنها نعمة ولا تتم تلك المعرفة إلا بأن يعرف أن النعم كلها جليها وخفيها من الله سبحانه وأنه المنعم الحقيقي وأن الأوساط كلهم منقادون لحكمه مسخرون لأمره.
الثاني: الحال التي هي ثمرة تلك المعرفة، وهي الخضوع والتواضع والسرور بالنعم، من حيث إنها هدية دالة على عناية المنعم بك وعلامة ذلك أن لا تفرح من الدنيا إلا بما يوجب القرب منه.
الثالث: العمل الذي هو ثمرة تلك الحال فان تلك الحال إذا حصلت في القلب حصل فيه نشاط للعمل الموجب للقرب منه، وهذا العمل يتعلق بالقلب واللسان والجوارح.

روي عن الإمام الصادق عليه السلام: “من أُعطي الشكر أُعطي الزيادة، يقول الله عز وجل ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾.

ومما لاشك فيه نفاسة الوقت، وجلالة العمر، وأنه أعز ذخائر الحياة وأنفسها. وحيث كان الوقت كذلك، وجب على العبد أن يستغله فيما يليق به، ويكافئه عزةً ونفاسة من الأعمال الصالحة، والغايات السامية، الموجبة لسعادته ورخائه الدنيوي والأخروي.
روي عن أبا ذر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال : “يا أبا ذر، إنّك في ممر الليل والنهار، في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، ومن يزرع خيراً يوشك أن يحصد خيراً، ومن يزرع شراً يوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع مثل ما زرع.

وروي عن الإمام الباقر (عليه السلام): إن العمل الصالح يذهب إلى الجنة فيمهد لصاحبه كما يبعث الرجل غلامه فيفرش له، ثم قرأ عليه السلام هذه الآية:(وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلأنفسهم يمهدون).

وقال صاحب تفسير الميزان رحمه الله :
وقوله: {وأصلح لي في ذريتي} الإِصلاح في الذرية إيجاد الصلاح فيهم وهو من الله سبحانه توفيقهم للعمل الصالح وينجرّ إلى إصلاح نفوسهم، وتقييد الإِصلاح بقوله: {لي} للدلالة على أن يكون إصلاحهم بنحو ينتفع هو به أي أن يكون ذريته له في برّه وإحسانه كما كان هو لوالديه.
ومحصّل الدعاء سؤال أن يلهمه الله شكر نعمته وصالح العمل وأن يكون بارَّاً محسناً بوالديه ويكون ذريته له كما كان هو لوالديه، وقد تقدَّم غير مرَّة أن شكر نعمه تعالى بحقيقة معناه هو كون العبد خالصاً لله فيؤول معنى الدعاء إلى سؤال خلوص النفس وصلاح العمل.

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “أربعة من سعادة المرء: الخلطاء الصالحون والولد البار.
وروي عن الإمام أبي جعفر عليه السلام، قال: “من سعادة الرجل أن يكون له الولد يعرف فيه شبهه خلقه وخلقه وشمائله.

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “مرّ عيسى ابن مريم عليه السلام بقبر يُعذّب صاحبه. ثم مرّ به من قابل، فإذا هو ليس يُعذّب. فقال عليه السلام: يا ربّ، مررت بهذا القبر عام أول وهو يُعذّب، ومررت به العام وهو ليس يُعذبّ! فأوحى الله جلّ جلاله إليه: يا روحالله، قد أدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً وآوى يتيماً، فغفرت له بما عمل ابنه.ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ميراث الله عزّ وجلّ من عبده المؤمن ولد يعبده من بعده.
وقال صاحب تفسير الميزان رحمه الله:
وقوله: {إني تبت إليك وإني من المسلمين} أي الذين يسلمون الأمر لك فلا تريد شيئاً إلا أرادوه بل لا يريدون إلا ما أردت.
والجملة في مقام التعليل لما يتضمنه الدعاء من المطالب، ويتبين بالآية حيث ذكر الدعاء ولم يردّه بل أيَّده بما وعد في قوله: {أُولئك الذين نتقبّل عنهم} أن التوبة والإِسلام لله سبحانه إذا اجتمعا في العبد استعقب ذلك إلهامه تعالى بما يصير به العبد من المخلصين.
روي عن الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: لأنسبنّ الإسلام نسبةً لم ينسبها أحد قبلي الإسلام هو التّسليم.

روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، قال: الإيمان له أربعةُ أركان: التّوكّل على الله، وتفويض الأمر إلى الله، والرّضا بقضاء الله، والتّسليم لأمر الله عزّ وجل.

من هو المسلم؟
هو من أقرّ بالله رباً وإلهاً واحداً وينفي الربوبية والأُلوهية عن غيره، و يقر بنبوة النبيِّ محمد صلّى الله عليه وآله. ويتخّذ الإسلام ديناً، ويتبع النبيَّ الأكرم محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله نبياً ورسولاً، ويكون مسلِّماً لأوصيائه عليهم السلام.
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.

رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ

الحلقة الخامسة والعشرون

بسم الله الرحمن الرحيم

{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}.

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة المؤبدة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
الدعاء في هذه الآية الكريمة، من أدعية حملة عرش الله عزوجل للذين أقروا بالتوحيد لله والبراءة من كل معبود سواه ليغفر لهم ذنوبهم ويكفر عنهم، وهذا الأخبار من الأمور الغيبية التي ذكرها القرآن الكريم.
ما يحتاجه العبد في قوة إدراكه التي يسعى بها للوصول إلى العبادة الخالصة لله هي المعرفة بمخلوقات الله ومن خلق الله الملائكة.

الملائكة جَمعُ مَلَكْ ، و هم صنفٌ من خلق اللّه جَلَّ جَلالُه ، و معلوماتنا عنهم محدودة جداً ، و ذلك لأن عالمَ الملائكة ليس عالَماً محسوساً و مشهوداً بالنسبة إلينا ، فلا طريق لنا إلى معرفة عالمهم أو معرفة خصوصياتهم إلاّ بواسطة القرآن الكريم أو الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وآله و الأئمة من أهل بيته عليهم السلام .
وأما في القرآن وردت آيات كثيرة تدل عليهم، وأما في روايات أهل البيت عليهم السلام، روي عن الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السَّلام و هو يتحدَّث عن خلق الملائكة قال:

” ثُمَّ فَتَقَ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ الْعُلَا فَمَلَأَهُنَّ أَطْوَاراً مِنْ مَلَائِكَتِهِ ، مِنْهُمْ سُجُودٌ لَا يَرْكَعُونَ ، وَ رُكُوعٌ لَا يَنْتَصِبُونَ ، وَ صَافُّونَ لَا يَتَزَايَلُونَ ، وَ مُسَبِّحُونَ لَا يَسْأَمُونَ ، لَا يَغْشَاهُمْ نَوْمُ الْعُيُونِ ، وَ لَا سَهْوُ الْعُقُولِ ، وَ لَا فَتْرَةُ الْأَبْدَانِ ، وَ لَا غَفْلَةُ النِّسْيَانِ ، وَ مِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى وَحْيِهِ ، وَ أَلْسِنَةٌ إِلَى رُسُلِهِ ، وَ مُخْتَلِفُونَ بِقَضَائِهِ وَ أَمْرِهِ ، وَ مِنْهُمُ الْحَفَظَةُ لِعِبَادِهِ وَ السَّدَنَةُ لِأَبْوَابِ جِنَانِهِ ، وَ مِنْهُمُ الثَّابِتَةُ فِي الْأَرَضِينَ السُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ ، وَ الْمَارِقَةُ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ ، وَ الْخَارِجَةُ مِنَ الْأَقْطَارِ أَرْكَانُهُمْ ، وَ الْمُنَاسِبَةُ لِقَوَائِمِ الْعَرْشِ أَكْتَافُهُمْ ، نَاكِسَةٌ دُونَهُ أَبْصَارُهُمْ ، مُتَلَفِّعُونَ تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ ، مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ الْعِزَّةِ وَ أَسْتَارُ الْقُدْرَةِ ، لَا يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّصْوِيرِ ، وَ لَا يُجْرُونَ عَلَيْهِ صِفَاتِ الْمَصْنُوعِينَ ، وَ لَا يَحُدُّونَهُ بِالْأَمَاكِنِ ، وَ لَا يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالنَّظَائِرِ.

وفي رواية الإمام الصادق عليه السلام قال: خلق الله الملائكة مختلفة وقد أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبرئيل وله ستمائة جناح على ساقه الدر مثل القطر على البقل قد ملأ ما بين السماء والأرض، وقال عليه السلام: إذا أمر الله عز وجل ميكائيل بالهبوط إلى الدنيا صارت رجله في السماء السابعة والأخرى في الأرض السابعة، وإن لله ملائكة أنصافهم من برد وأنصافهم من نار يقولون: يا مؤلفا بين البرد والنار ثبت قلوبنا على طاعتك.
وقال عليه السلام: إن لله ملكا بعد ما بين شحمة أذنه إلى عينه مسيرة خمسمائة عام بخفقان الطير.
وقال: إن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون وإنما يعيشون بنسيم العرش، وإن لله عز وجل ملائكة ركعا إلى يوم القيامة وإن لله عز وجل ملائكة سجدا إلى يوم القيامة.
ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من شئ مما خلق الله عز وجل أكثر من الملائكة وإنه ليهبط في كل يوم أو في كل ليلة سبعون ألف ملك، فيأتون البيت الحرام فيطوفون به ثم يأتون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم يأتون أمير المؤمنين عليه السلام فيسلمون ثم يأتون الحسين عليه السلام فيقيمون عنده فإذا كان عند السحر وضع لهم معراج إلى السماء ثم لا يعودون أبدا.

وفي هذه الآية الكريمة معاني ودلالة يتلطف بها الرحمن على عباده في تقوية إيمانهم أنه تعالى يخبرهم عن المستغفرين لهم، وقد قال صاحب تفسير الميزان رحمه الله:
لما ذكر سبحانه تكذيب الذين كفروا و جدالهم في آيات الله بالباطل و لوح إلى أنهم غير معجزين و لا مغفول عنهم بل معنيون في هذه الدعوة و العناية فيهم أن يتميزوا فيحق عليهم كلمة العذاب فيعاقبوا عاد إلى بدء الكلام الذي أشار فيه إلى أن تنزيل الكتاب و إقامة الدعوة لمغفرة جمع و قبول توبتهم و عقاب آخرين فذكر أن الناس قبال هذه الدعوة قبيلان:
قبيل تستغفر لهم حملة العرش و الحافون به من الملائكة و هم التائبون إلى الله المتبعون سبيله و من صلح من آبائهم و أزواجهم و ذرياتهم.
و قبيل ممقوتون معذبون و هم الكافرون بالتوحيد. قوله تعالى: « اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ‌ بِهِ‌ » إلى آخر الآية. لم يعرف سبحانه هؤلاء الحاملين للعرش من هم‌؟ و لا في كلامه تصريح بأنهم من الملائكة لكن يشعر عطف قوله: « وَ مَنْ حَوْلَهُ‌ عليهم و قد قال فيهم : «وَ تَرَى اَلْمَلاٰئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ اَلْعَرْشِ‌:» الزمر: 75 أن حملة العرش أيضا من الملائكة.
قوله: « اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ‌ » أي الملائكة الذين يحملون العرش الذي منه تظهر الأوامر و تصدر الأحكام الإلهية التي بها يدبر العالم، و الذين حول العرش من الملائكة و هم المقربون منهم. و قوله: « يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ‌ » أي ينزهون الله سبحانه، و الحال أن تنزيههم له يصاحب ثناؤهم لربهم، فهم ينزهونه تعالى عن كل ما لا يليق بساحة قدسه، و من ذلك وجود الشريك في ملكه، و يثنون عليه على فعله و تدبيره.
وما قاله الشيخ الصدوق رحمه الله في كتابه الاعتقادات في دين الإمامية -الصفحة ٤٥ -٤٦.
قال الشيخ أبو جعفر رحمه الله اعتقادنا في العرش أنه جملة جميع الخلق، والعرش في وجه آخر هو العلم.
وسئل الامام الصادق عليه السلام عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فقال: “استوى من كل شيء، فليس شيء أقرب إليه من شيء”.
فأما العرش الذي هو جملة جميع الخلق فحملته ثمانية من الملائكة، لكل واحد منهم ثمانية أعين، كل عين طباق الدنيا:
واحد منهم على صورة بني آدم، فهو يسترزق الله تعالى لولد آدم.
واحد منهم على صورة الثور، يسترزق الله للبهائم كلها،
وواحد منهم على صورة الأسد، يسترزق الله تعالى للسباع،
وواحد منهم على صورة الديك، فهو يسترزق الله للطيور.
فهم اليوم هؤلاء الأربعة، فإذا كان يوم القيامة صاروا ثمانية.

وأما العرش الذي هو العلم، فحملته أربعة من الأولين، وأربعة من الآخرين.
فأما الأربعة من الأولين: فنوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى.
وأما الأربعة من الآخرين: فمحمد، وعلي، والحسن، والحسين صلى الله عليهم.
هكذا روي بالأسانيد الصحيحة عن الأئمة عليهم السلام في العرش وحملته، وإنما صار هؤلاء حملة العرش الذي هو العلم ، لأن الأنبياء الذين كانوا قبل نبينا صلى الله عليه وآله كانوا على شرائع الأربعة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، ومن قبل هؤلاء صارت العلوم إليهم، وكذلك صار العلم من بعد محمد وعلي والحسن والحسين عليهم السلام إلى من بعد الحسين من الأئمة عليهم السلام.

ونحن في هذه الأيام المباركة الكريمة نسأل الله أن نكون من الذين شملتهم رحمته وغفرانه وتمسكنا بولاية محمد وآل محمد، الذين وصفوا شيعتهم بما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام)قال: ما شيعتنا إلاّ مَن اتّقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون إلاّ بالتواضع والتخشّع، وأداء الأمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم والصلاة، والبر بالوالدين، وتعهّد الجيران من الفقراء وذوي المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكف الألسن عن الناس إلاّ من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء.

وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي

الحلقة الرابعة والعشرون

بسم الله الرحمن الرحيم

{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ* رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}.

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة المؤبدة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

هذا الدعاء في هذه الآية الكريمة من أدعية النبي إبراهيم عليه السلام في كتاب الله الكريم الجامع للخيرات الدنيوية والأخروية التي ينبغي للعبد العناية بها وملازمتها، لما فيها من مقاصد ومضامين يحتاجها العبد في دنياه.

معرفة النبي إبراهيم عليه السلام الذي هو ثاني أنبياء أولي العزم، بعثه الله في بلاد ما بين النهرين؛ ليدعو الناس إلى التوحيد وحاكم عصره النمرود، فلم يؤمن به إلا القليل منهم، فلمّا يئس من إيمانهم هاجر إلى فلسطين.

وورد في القرآن الكريم أن قوم إبراهيم كانوا يعبدون الأصنام، فكسر إبراهيم أصنامهم، فرموه في النار، إلا أن النار بردت بأمر الله وخرج إبراهيم منها بسلام.
جاء في الآيات القرآنية بأن بنى إبراهيم عليه السلام الكعبة بأمر الله، ودعا الناس إلى الحج، كما ابتلاه الله بامتحانات، منها أمره أن يذبح ولده وبعدها فداه بذبح عظيم، وبعد أن نجح في الابتلاءات أعطاه الله مقام الإمامة إضافة إلى النبوة.

وقع الخلاف بين المفسرين الشيعة والعامة في أبي إبراهيم عليه السلام، ومما أورده صاحب تفسير الميزان قال: وفي الآية دليل على أنه عليه السلام لم يكن ولد آزر المشرك لصلبه فإنه عليه السلام كما ترى يستغفر لوالديه وهو على الكبر وفي آخر عهده، وقد تبرأ من آزر في أوائل عهده بعد ما استغفر له عن موعدة وعده إياه ، قال تعالى: {قال سلام عليك سأستغفر لك ربى}, وقال: {واغفر لأبي إنه كان من الضالين}.
وقال رحمه الله: وأما أبو إبراهيم فقد ذكر أهل التاريخ أن اسمه تارخ – بالحاء المهملة أو المعجمة – وآزر إما لقبه أو اسم صنم أو وصف ذم أو مدح بحسب لغتهم بمعنى المعتضد أو الأعرج وصفه به إبراهيم.
وذكروا أن هذا المشرك الذي سماه القرآن أبا إبراهيم وذكر محاجته إياه كان هو تارخ أباه الصلبي ووالده الحقيقي، ووافقهم على ذلك عدة من علماء الحديث والكلام من أهل السنة، وخالفهم جمع منهم، والشيعة كالمجمع على ذلك أو هم مجمعون إلا ما يتراءى من بعض المحدثين حيث أودعوا تلك الأخبار كتبهم، وعمدة ما احتج به القائلون بأن آزر المشرك لم يكن والد إبراهيم، وإنما كان عمه أو جده لأمه ، والأخبار الواردة من طرق الفريقين في أن آباء النبي صلى الله عليه وآله كانوا موحدين جميعا لم يكن فيهم مشرك، وقد طالت المحاججة بين الفريقين.
البحث على هذا النمط كيفما تم خارج عن البحث التفسيري، وإن كان الباحثون من الفريقين في حاجة إلى إيراده واستنتاج حق ما ينتجه، لكنا في غنى عن ذلك، فقد تقدم أن الآيات دالة على أن آزر المشرك الذي يذكره الله تعالى في هذه الآيات من سورة الأنعام لم يكن والدا حقيقيا لإبراهيم عليه السلام.
وينبغي للعبد عند تأمله وتفكره بما جاء في معاني هذا الدعاء في هذه الآية، قوله: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاة﴾ أي: يا ربّ اجعلني ممن يحافظ على الصلاة في أوقاتها وأركانها وشروطها، وكل ما يؤدي إلى القيام بكمالها، وخصّ إقامة الصلاة بالدعاء لأهميتها؛ ولكونها شعار الإيمان ورأس الإسلام وما روي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: الصلاة عمود الدين، مثلها كمثل عمود الفسطاط، إذا ثبت العمود يثبت الأوتاد والأطناب، وإذا مال العمود وانكسر لم يثبت وتد ولا طنب.

وقوله: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ أي: واجعل كذلك بعض ذريتي من يقيمها على الوجه الأتمّ والأكمل، لان العبد يأمل بذرية عابدة لله وقد ورد في أحاديث اهل البيت عليهم السلام.
روي إسحاق ابن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن فلانا – رجلا سماه – قال: إني كنت زاهدا في الولد حتى وقفت بعرفة فإذا إلى جانبي غلام شاب يدعو ويبكى ويقول يا رب والدي والدي فرغبني في الولد حين سمعت ذلك.

وهذه الدعوات من خير الدعوات التي يدعو بها العبد المؤمن له ولذريته، فالأحبّ له من أن يكون مقيماً للصلاة هو وذريته على الوجه الأكمل والأتم .
وقوله : ﴿رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء﴾ أي وتقبّل دعائي، ولا يخفى في تكرار التوسل بربوبية اللَّه تعالى من كمال التضرّع والتذلل بين يدي اللَّه تعالى.
روي عن الإمام الصادق عليه‌ السلام قال: إذا طلب أحدكم الحاجة ، فليثن على ربه ، وليمدحه ، فإن الرجل ، إذا طلب الحاجة من السلطان ، هيأ له من الكلام أحسن ما يقدر عليه ، فإذا طلبتم الحاجة ، فمجدوا الله العزيز الجبار ، وامدحوه، وأثنوا.

وينبغي للأبناء المواظبة على الدعاء للوالدين وذلك لعظيم حقهما عليهم، وهو أقل الشكر تجاه من هم أصل الوجود، بل وأصل كل خير ونعمة حصلوا عليها، حتى العبادات التي يلتزم بها الأولاد ما كانت لو لا الآباء والأمهات، وكما علموهم من الدعاء للمؤمنين وإشراكهم في دعائهم، وما روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال : ثلاث دعوات لا يحجبن عن الله تعالى: دعاء الوالد لولده إذا بره، ودعوته عليه إذا عقه، ودعاء المظلوم على ظالم، ودعاؤه لمن انتصر له منه، ورجل مؤمن دعا لأخ له مؤمن واساه فينا، ودعاؤه عليه إذا لم يواسه مع القدرة عليه واضطرار أخيه إليه.
ونحن في أيام هذا الشهر المبارك وقد انقضى اكثر، نسأل الله ان يجعلنا من عتقائه من النار ومن الذين يدعون للإمام عجل الله فرجه، روي عن الإمام الصادق عليه السلام في دعاء له قال: اللهم صل على محمد وآل محمد ، وعلى إمام المسلمين ، واحفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته ، وافتح له فتحا يسيرا ، وانصره نصرا عزيزا ، واجعل له من لدنك سلطانا نصيرا . اللهم عجل فرج آل محمد ، وأهلك أعداءهم من الجن والإنس .
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.

قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ

الحلقة الثالثة والعشرون

بسم الله الرحمن الرحيم

{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}.

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة المؤبدة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

هذا الدعاء في هذه الآية الكريمة من أدعية نبي الله سليمان عليه السلام، وفي معانيها دروس للعباد في الطاعة الكاملة لله وكثرة الاستغفار له وأنه عزوجل بيده ملك كل شئ، ومنه العطاء وإليه الهبة.

من المعروف أن الكثير من قصص الانبياء “عليهم السلام” وصل إليها التحريف والتزوير ونسب المعصية إلى الأنبياء مما يتعارض مع الهدف السامي الذي جاء به كل نبي، إلا أن القرآن الكريم قد بين قصة كل نبي ، حيث امتازت قصصه بالموضوعية والواقعية، وتصحيح التحريف، والإيجاز في سرد القصة” وذلك قوله تعالى {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ}.
على الرغم من تلك الامتيازات فهي تحتاج الى من يوضحها ويزيل عنها التشكيك والشبهة، والمتمكن من ذلك هو القرآن الكريم، وأهل البيت عليهم السلام.

عاش النبي سليمان عليه السلام في كنف ابيه النبي داود عليه السلام حيث تلقى من نبع النبوة هديها، ومن عين الصلاح سمته واثره، اذ نرى القرآن الكريم معتبراً اياه نعمة وهبة من الله سبحانه وتعالى على داود عليه السلام وذلك قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾والتعبير القرآني ﴿ وَوَهَبْنَا﴾ أي أنها هبة من الله للنبي داود عليه السلام أن رزقه هذا الابن البار ، ثم يؤكد بقوله ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ أي أنه مدحه الله تعالى بالعبودية، وهي مرتبه عظيمة، ووسام شرف، والمراد بقوله تعالى ﴿ أَوَّابٌ﴾ ارجاع عن كل ما يكره الله الى ما يحب.
اتصف النبي سليمان عليه السلام بعدّة صفات كان من أبرزها أنه أورثه الله تعالى ميراث أبيه، وعلمه الله سبحانه لغة الطيور، فبين الله تعالى في قوله: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾، وبذلك فقد ورث سليمان وراثة المال والعلم والنبوة والملك، وتسخير الرياح والمردة والشياطين والجن كل مسخرات لنبي الله سليمان عليه السلام.

الفتنة التي امتُحن بها النبي سليمان “عليه السلام”

الفتنة: هي البلاء والله تعالى يبتلي الأنبياء والأولياء لترفع درجاتهم عنده، وتسمو منازلهم لديه، وليتعلم الناس منهم الصبر، وذلك افتتان النبي سليمان عليه السلام من قبل الباري عز وجل بإلقائه جسداً لأنسان ميت على كرسيه في قوله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾، قد روى الطبرسي عن الامام ابي عبد الله الصادق عليه السلام قال: أن الجن والشياطين لما ولد لسليمان عليه السلام ابن قال بعضهم لبعض: إن عاش له ولد لنلقين منه ما لقينا من أبيه من البلاء، فأشفق عليه السلام منهم عليه، فاسترضعه في المزن وهو السحاب، فلم يشعر إلا وقد وضع على كرسيه ميتا، تنبيها على أن الحذر لا ينفع عن القدر، وإنما عوتب عليه السلام على خوفه من الشياطين.
قال الشيخ الطوسي في بيان معنى قولة تعالى ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ ﴾أي اختبرناه وابتليناه وشددنا المحنة عليه، وأما قوله تعالى: ﴿ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ﴾ فانتقد الشيخ الطوسي أقوال جملة من المفسرين ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الشيخ السدي في تفسيره للآية الكريمة، وحيث اكد الشيخ الطوسي أن الله نزه الأنبياء عن القبائح، ونزه الله تعالى عن مثل ذلك، وهو أنه لا يجوز أن يمكن الله تعالى جنياً ليتمثل في صورة نبي لما في ذلك من الاستيعاد، وأن النبوة لا تكون في الخاتم ، وأنه سبحانه وتعالى لا يسلب النبي نبوته، وليس في الآية شيء من ذلك، وإنما قال فيها انه ألقي على كرسيه جسدا.

قيل في معنى ذلك الجسد، أن النبي سليمان قال يوما في مجلسه وفيه جمع كثير لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة منهن غلاما يضرُبُ بالسيف في سبيل الله، وكان له في ما يروي عدد كبير من السراري، فأخرج الكلام على سبيل المحبة، فنزهه الله عما ظاهره الحرص على الدنيا، لئلا يقتدي به في ذلك، فلم يحمل من نسائه إلا امرأة واحدة ولداً ميتاً، فحمل حتى وضع على كرسيه جسدا بلا روح، تنبيها له على انه ما كان يجب أن يظهر منه ما ظهر، فاستغفر الله وفزع الى الصلاة والدعاء على وجه الانقطاع.
وفي قصة النبي سليمان كثير من الوقائع التي ذكرها الله في محكم كتابه، مما تضمنته الآية الكريمة لتكون درسا للعبد المؤمن ويقينا له أن الله هو الواهب لهذه العطايا.
الهبة أن تجعل ملكك لغيرك دون عوض، ولها ركنان أحدهما التمليك، والأخر بغير عوض، والواهب هو المعطي ، والوهاب مبالغة من الوهب، والوهاب والواهب من أسماء الله الحسنى، يعطى الحاجة بدون سؤال، ويبدأ بالعطية، والله كثير النعم.
ونحن في أيام الله المباركة ويوم القدر كليلة القدر كما روى عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: صبيحة يوم ليلة القدر مثل ليلة القدر، فاعمل واجتهد.

وروي عن هشام بن الحكم رضوان الله عليه عن أبي عبد الله الصادق صلوات الله عليه قال: يومها مثل ليلتها، يعني ليلة القدر، وفي حديث آخر عن أبي عبد الله عليه السلام أنه سأله بعض أصحابنا ولا أعلمه إلا سعيد السمان: كيف تكون ليلة القدر خيرا من ألف شهر؟ قال: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيه ليلة القدر، وقال أبو عبد الله عليه السلام: يومها مثل ليلتها يعني ليلة القدر، وهي تكون في كل سنة .
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ

الحلقة الثانية والعشرون

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ* وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}.

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة المؤبدة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

هذا الدعاء في هذه الآية الكريمة من دعاء نبي الله نوح عليه السلام، وفيه دلائل على الإذعان والطاعة والإلحاح بالدعاء لله عزوجل، ليأتي نصره لعباده المؤمنين، فذكره الله تعالى في كتابه المبين وخلده ليكون موضع تأمل وتفكر وأنه عزوجل بيده خلاص الأمور.

وإن نوحا نبي من أنبياء الله العظام، وهو من أولي العزم، وأولو العزم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ونبينا الخاتم صلوات الله عليه وعلى آله وعلى جميع الأنبياء، وهؤلاء الأنبياء عليهم السلام لهم مواقع متميزة في حياة البشرية، ونبي الله نوح له امتيازات، فمن امتيازاته أنه أبونا الثاني، والقرآن الكريم ذكره في أكثر من أربعين موضعا، حيث تناول مسألة نوح، وما جرى عليه.

وهو عليه السلام أول من فتح باب التشريع وأتى بكتاب وشريعة وكلم الناس بمنطق العقل وطريق الاحتجاج مضافاً إلى طريق الوحي، فله المنّة على جميع الموحدين إلى يوم القيامة، ولذلك خصّه الله تعالى بسلام عام لم يشاركه فيه أحد، فقال عزّ من قائل: {سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ}.

و ذكر اسمه (عليه السلام) في القرآن في بضع وأربعين موضعا يشار فيها إلى شئ من قصته إجمالا أو تفصيلا، ولم تستوف قصته (عليه السلام) في شئ منها استيفاء على نهج الاقتصاص التاريخي بذكر نسبه وبيته ومولده ومسكنه ونشوئه وشغله وعمره ووفاته ومدفنه وسائر ما يتعلق بحياته الشخصية، لأن القرآن لم ينزل ككتاب تاريخ يقتص تواريخ الناس من بر أو فاجر، وإنما هو كتاب هداية يصف للناس ما فيه سعادتهم، ويبين لهم الحق الصريح ليأخذوا به فيفوزوا في حياتهم الدنيا والآخرة، وربما أشار إلى طرف من قصص الأنبياء والأمم لتظهر به سنة الله في عباده، ويعتبر به من شملته العناية ووفق للكرامة، وتتم به الحجة على الباقين.
وقد فصلت قصة نوح (عليه السلام) في ست من السور القرآنية وهي سورة الأعراف، وسورة هود، وسورة المؤمنون، وسورة الشعراء، وسورة القمر، وسورة نوح، وأكثرها تفصيلا سورة هود التي ذكرت قصته (عليه السلام) فيها في خمس وعشرين آية.

وقد وردت في الأحاديث الشريفة عن أهل البيت عليهم السلام ما جرى عليه، روي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما أظهر الله نبوة نوح وأيقن الشيعة بالفرج اشتدت البلوى ووثبوا إلى نوح بالضرب المبرح حتى مكث في بعض الأوقات مغشيا عليه ثلاثة أيام يجرى الدم من أذنه ثم أفاق وذلك بعد سنة ثلاثمائة من مبعثه وهو خلال ذلك يدعوهم ليلا ونهارا فيهربون ويدعوهم سرا فلا يجيبون ويدعوهم علانية فيولون.
بعد ثلاثمائة سنة بالدعاء عليهم جلس بعد صلاة الفجر للدعاء فهبط إليه وفد من السماء السابعة وهم ثلاثة أملاك فسلموا عليه ثم قالوا له: يا نبي الله حاجتنا أن تۆخر الدعاء على قومك، فإنها أول سطوة لله عز وجل في الأرض.
قال: قد أخرت الدعاء عليهم ثلاثمائة سنة أخرى، وعاد إليهم فصنع ما كان يصنع ويفعلون ما كانوا يفعلون حتى إذا انقضت ثلاثمائة سنة أخرى ويئس من إيمانهم جلس في وقت الضحى للدعاء، فهبط إليه وفد من السماء السادسة فسلموا عليه وسألوه مثل ما سأله الوفد الأول فأجابهم مثل ما أجاب أولئك.
ثم عاد وقومه بالدعاء حتى انقضت ثلاثمائة سنة تتمة تسعمائة سنة فصارت إليه الشيعة وشكوا ما ينالهم من العامة والطواغيت وسألوه الدعاء بالفرج فأجابهم إلى ذلك وصلى ودعا، فهبط جبرئيل عليه السلام فقال: ان الله تبارك وتعالى قد أجاب دعوتك فقل للشيعة يأكلوا التمر ويغرسوا النوى ويراعوه حتى يثمر، فإذا اثمر فرجت عنهم، فعرفهم ذلك واستبشروا ففعلوا ذلك وراعوه حتى أثمر ثم سألوه ان ينجز لهم الوعد.
فسأل الله ذلك، فأوحى الله إليه: قل لهم كلوا هذا التمر واغرسوا النوى فإذا أثمرت فرجت عنكم.
فلما ظنوا ان الخلف قد وقع عليهم ارتد عنهم الثلث وبقى الثلثان فأكلوا التمر وغرسوا النوى حتى إذا أثمر اتوا به نوحا فسألوه ان ينجز لهم الوعد.
فسأل الله عز وجل عن ذلك، فأوحى الله إليهم: قل لهم كلوا التمر واغرسوا النوى، فارتد الثلث الآخر وبقى الثلث.
فأكلوا التمر وغرسوا النوى، فلما أثمر اتوا به نوحا عليه السلام فأخبروه وقالوا: لم يبق منا إلا القليل ونحن نتخوف على أنفسنا بتأخر الفرج ان نهلك، فصلى نوح عليه السلام فقال:
يا رب لم يبق من أصحابي الا هذه العصابة وإني أخاف عليهم الهلاك ان تأخر الفرج، فأوحى الله عز وجل إليه: قد أجبت دعوتك فاصنع الفلك فكان بين إجابة الدعاء والطوفان خمسين سنة.
وروي عن سيد الموحدين أمير المؤمنين عليه السلام: لما أراد الله عز وجل إهلاك قوم نوح عليه السلام عقم أرحام النساء أربعين عاما لم يولد فيهم مولود فلما فرغ من اتخاذ السفينة أمره الله تعالى ان ينادى فيهم بالسريانية لم تبقى بهيمة ولا حيوان إلا حضر فأدخل كل جنس من أجناس الحيوان زوجين السفينة.
وكان الذين آمنوا به من جميع الدنيا ثمانون رجلا فقال الله تعالى (احمل فيها من كل زوجين اثنين) وكان قد نجر السفينة في مسجد الكوفة، فلما كان اليوم الذي أراد الله اهلاكهم كانت امرأة نوح تخبز في الموضع الذي يعرف بفار التنور في مسجد الكوفة وقد كان نوح عليه السلام اتخذ لكل ضرب من أجناس الحيوان موضعا في السفينة وجمع لهم ما يحتاجون إليه من الغذاء وصاحت امرأته لما فار التنور، فجاء نوح إلى التنور فوضع طينا وختمه حتى أدخل جميع الحيوانات في السفينة، ثم جاء إلى التنور وفض الخاتم ورفع الطين وانكسفت الشمس ونزل من السماء ماء منهمر صب بلا قطر، وتفجرت الأرض عيونا، فقال الله عز وجل: اركبوا فيها.
فدارت السفينة ونظر نوح عليه السلام إلى ابنه يقع ويقوم فقال له: (يا بنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين)!
فقال ابنه: (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء).
فقال نوح (لا عاصم اليوم من أمر الله الا من رحم الله)!
ثم قال نوح: (رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق) !
فقال يا نوح (إنه ليس من أهلك انه عمل غير صالح فحال بينهما الموج فكان من المغرقين)..
دارت السفينة وضربتها الأمواج حتى وافت مكة وطافت في البيت وغرق جميع الدنيا إلا موضع البيت ، وإنما سمي البيت العتيق، لأنه أعتق من الغرق فبقى الماء ينصب من السماء أربعين صباحا ومن الأرض العيون حتى ارتفعت السفينة فرفع نوح يده وقال (يا رهمان اتفر) وتفسيرها يا رب أحسن فأمر الله الأرض ان تبلع ماءها فأراد ماء السماء ان يدخل في الأرض فامتنعت الأرض من قبوله، وقالت إنما أمرني أن أبلع مائي، فبقى ماء السماء على وجه الأرض واستوت السفينة على جبل الجودي، وهو بالموصل جبل عظيم، فبعث الله جبرائيل عليه السلام ، فساق الماء إلى البحار حول الدنيا.
أنزل الله على نوح: (يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب اليم) فنزل نوح عليه السلام بالموصل من السفينة مع الثمانين، وبنوا مدينة الثمانين.
قال النبي صلى الله عليه وآله: نوح أحد الأبوين.

ونحن في هذه الأيام والليالي نسأل الله أن يجعلنا من المغفور ذنوبهم، وهذه ليالي القدر تنقضي ونحن نسأل الله أن نكون من الذين شملتهم رحمته فيها، روي عن الإمام الباقر عليه السلام: “من أحيا ليلة القدر غفرت له ذنوبه، ولو كانت ذنوبه عدد نجوم السماء، ومثاقيل الجبال، ومكائيل البحار.
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ

الحلقة الحادية والعشرين

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}.

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة المؤبدة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

هذا الدعاء في هذه الآية الكريمة من ادعية نبي الله أيوب عليه السلام، وفي معانيها الطاعة الفريدة والإعانة على تحمل ما ينزل من الله، نعمة أو ضر، والصبر عليها، فذكره الله في كتابه العزيز من الصابرين الذين يزيدهم من فضله، ويوفيهم أجورهم.

وردت الأحاديث الشريفة عن أهل البيت عليهم السلام تحدثنا، ما جرى على هذا النبي عليه السلام، روي عن جعفر بن محمد، عن أبيه عليهما السلام قال: إن أيوب عليه السلام ابتلي سبع سنين من غير ذنب وإن الأنبياء لا يذنبون لأنهم معصومون مطهرون، لا يذنبون ولا يزيغون ولا يرتكبون ذنبا صغيرا ولا كبيرا.

وقال عليه السلام: إن أيوب عليه السلام مع جميع ما ابتلي به لم تنتن له رائحة، ولا قبحت له صورة، ولا خرجت منه مدة من دم ولا قيح، ولا استقذره أحد رآه، ولا استوحش منه أحد شاهده، ولا تدود شئ من جسده وهكذا يصنع الله عز وجل بجميع من يبتليه من أنبيائه وأوليائه المكرمين عليه وإنما اجتنبه الناس لفقره وضعفه في ظاهر أمره، بجهلهم بما له عند ربه تعالى ذكره، من التأييد والفرج، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله: أعظم الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.
وإنما ابتلاه الله عز وجل بالبلاء العظيم الذي يهون معه على جميع الناس لئلا يدعوا له الربوبية إذا شاهد واما أراد الله أن يوصله إليه من عظائم نعمه تعالى متى شاهدوه، ليستدلوا بذلك على أن الثواب من الله تعالى ذكره على ضربين:
استحقاق واختصاص، ولئلا يحتقروا ضعيفا لضعفه، ولا فقيرا لفقره، ولا مريضا لمرضه، وليعلموا أنه يسقم من يشاء، ويشفي من يشاء، متى شاء، كيف شاء بأي سبب شاء، ويجعل ذلك عبرة لمن شاء، وشقاوة لمن شاء، وسعادة لمن شاء، وهو عز وجل في جميع ذلك عدل في قضائه، وحكيم في أفعاله: لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم ولا قوة لهم إلا به.

وهذه الرواية ـ الصادرة من بيت الوحي والنبوة ـ تعرب عن عقيدة الأئمّة في حق الأنبياء عامة ، وفي حق النبي أيوب خاصة ، وانّ الأنبياء لا يبتلون بالأمراض المنفّرة، لأنّها لا تجتمع مع هدف البعثة ، وأنّ ابتلاء أيوب كان لأهداف تربوية أُشير إليها في الرواية.

وقال العلاّمة المجلسي بعد نقل الخبر المتقدم عن الإمام الباقر (عليه السلام) : هذا الخبر أوفق بأُصول متكلمي الإمامية من كونهم منزّهين عمّا يوجب تنفّر الطباع عنهم ، فتكون الأخبار الأُخر محمولة على محامل أُخر.

انّ الروايات الواردة في بعض الكتب من إصابته بأمراض منفّرة يخالفها العقل ، وتردّها النصوص المروية عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).

يعرف للعباد أن الصبر من أشرف الأخلاق، فإن معنى ذلك أن الذي يتحلى به هو من أشرف الناس وأعظمهم أخلاقا، وهذا ما نراه جليا في امتحان الأنبياء عليه السلام، فإن إحدى البليات التي يتعرض لها الأنبياء لكي ينالوا مقام الإمامة الإلهية تتطلب الصبر الشديد بحيث لا يستطيع المؤمن العادي تحمله، فهذا نبينا إبراهيم عليه السلام قد صبر على طاعة الله عز وجل بعد أن أمره بذبح ولده، فكاد أن يذبحه لولا الفداء العظيم من الله بعد أن أظهر عليه السلام صبرا على أداء التكليف، وهكذا كان نبي الله أيوب في صبره الإلهي فأعطاه الله مقام الإمامة الإلهية.

ونحن في هذه الليالي الحزينة في شهادة إمام المتقين أمير المؤمنين عليه السلام، عظم الله أجورنا بهذا المصاب الجلل، لك العزاء يا صاحب الزمان ومما جاء من خطبة له (عليه السلام) بعد انصرافه من صفين:
” لا يقاس بآل محمد (صلى الله عليه وآله) من هذه الأمة أحد، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا.

بقي الإمام علي (عليه السلام) يعاني من ضربة المُجرم الأثيم ابن ملجم ثلاثة أيام، عَهد خلالها بالإمامة إلى ابنه الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام).
وطوال تلك الأيام الثلاثة، كان الإمام (عليه السلام) يلهَجُ بذكر الله، والرضا بقضائه، والتسليم لأمره.
كما كان الإمام (عليه السلام) يُصدر الوصيَّة تُلوَ الوصيَّة، داعياً إلى إقامة حُدودِ الله عزَّ وجلَّ، محذِّراً من اتِّباع الهوى، والتراجع عن حَمل الرسالة الإسلامية.
وأخيراً، وفي الحادي والعشرين من شهر رمضان من عام 40 هـ، كانت النهاية المؤلمة لهذا الإمام العظيم (عليه السلام)، الذي ظُلِم خلال حياته ظُلامَتَين كبيرتين:
الأولى: إقصاؤُه عن الخلافة من قِبَل مُبغِضِيه.
الثانية: اغتياله في شهر الله، الذي هو أفضل الشهور، ليَمضي إلى رَبِّه مقتولاً شهيداً.
حيث كانت مصيبة فقده (عليه السلام) من أشَدِّ المصائب التي تعرَّضت لها الأمة الإسلامية من بعد مصيبة فقدان النبي (صلى الله عليه وآله).
وآخر دعوانا ان الحمدلله رب العالمين.