بسم الله الرحمن الرحيم
[responsivevoice_button voice=”Arabic Male” buttontext=”القارئ الآلي”]
{ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ }
صدق الله العلي العظيم
من الصعب جداً إدراك حقيقة مقامات النبي المصطفى محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعظمته، ومكانته، ومن يريد أن يتحدث عن أعظم شخصيةٍ وأن يدرك حقيقة الإنسان الأول في عالم الوجود على الإطلاق كمن يحاول أن يكيل البحر بقدح، كمن يحاول إدخال الشمس في كوّة البيت .
فالحديثُ عن مقامات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حديثٌ كبير وخطير وعظيم جداً.
كيف لا يكون كذلك وهو الشخصية العظمى التي وصفها الجليل جلَّ وعلا في كتابه المجيد قائلاً:
( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) سورة الأنبياء، آية 107.
ومن خصوصيات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومقاماته العظيمة، أنه ( صاحب الخُلُق العظيم ) أختُص به (صلى الله عليه وآله) وخصهُ اللهُ تبارك وتعالى بها في كتابه الكريم قائِلاً: { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } سورة القلم، آية 4.
لقد أكد القرآن الكريم واهتمّ بمكارم الأخلاق وذم مساوئها في سوره وآياته المؤكدة حيث بلغت مجموع الآيات التي تحدثت عن الأخلاق بالتصريح أو بالإشارة، أمراً أو نهياً، ما يقرب ربع العدد الإجمالي لآيات القرآن الكريم.
ولعل السر في عناية القرآن المجيد بهذا العنصر المهم هو ما ذكره الله سبحانه في قوله:
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ سورة آل عمران، آية 159.
وهكذا كانت حياة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) متصفةً بأهم أصول وقواعد هذا الدين القيم المبارك، وهكذا كانت حياته مع الناس.
ومن هنا يتضح أهمية ما أثنى به الجليل سبحانه وتعالى على سيد الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } سورة القلم، آية 4.
والخلق العظيم هو: (( الخُلُق الأكرم في نوع الأخلاق، وهو البالغ أشدّ الكمال المحمود في طبع الإنسان .. فهو أرفع من مطلق الخُلُق الحسن )). التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور التونسي، تأليف الإمام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور التونسي، ج29، ص60.
وقال الرازي في التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب في الجزء 29، ص71: ( لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) وكلمة (على) للإستعلاء، فدلّ اللفظ على أنه مستعلٍ على هذه الأخلاق ومستولٍ عليها، وإنه بالنسبة لهذه الأخلاق الجميلة كالمولى بالنسبة إلى العبد، وكالأمير بالنسبة إلى المأمور.
ولقد تكرر مثل هذا الإسلوب الإستعلائي في كلام الله سبحانه وتعالى في مقامات مختلفة، حيث قال في حق نبيه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم): { إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ } سورة الحج، آية 67. وقال: { فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۖ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ } سورة النمل، آية 79.
لذا قيل في وصف خلقه (صلى الله عليه وآله): (( ويعجز كل قلم ويعجز كل تصوّر عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من رب الوجود، وهي شهادة من الله، في ميزان الله، لعبد الله، يقول له فيها:
{ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } ومدلول الخُلُق العظيم، هو ما هو عند الله مما لا يبلغ إلى إدراك مداه أحد من العالمين !. ))
لقد وصف القرآن الكريم النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالخلق العظيم ولم يصف باقي الأنبياء (عليهم السلام) بهذا الوصف، وهذا يعني أن عظمة الأخلاق لم يقر القرآن المجيد بها لأحد من المخلوقات بما فيها الأنبياء والرسل إلا النبي الأكرم محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله)، حيث قال: { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ }.
نعم لقد وصف القرآن الكريم باقي الأنبياء بصفات عديدة مثل:
– النبي نوح (عليه السلام) وصف بالعبد الشكور، في قوله تعالى: { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } سورة الإسراء، آية 3.
– النبي إبراهيم (عليه السلام) وصف بالحلم، في قوله تعالى: { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } سورة التوبة، آية 114.
– النبي يحيى (عليه السلام) وصفه الله تعالى بالسيد الحصور، في قوله تعالى: { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ }. سورة آل عمران، آية 39.
وغير ذلك من الصفات المذكورة للأنبياء (عليهم السلام) في القرآن الكريم، أما وصف جميع الصفات والكمالات الخلقية والنفسية والروحية والتي اجتمعت في شخص واحد لم يصف القرآن فيها أحداً إلا إثنين – كما ذكره المحقق آية الله اشيخ محمد السند (دام ظله الشريف) في كتابه مقامات النبي والنبوة – وهما النبي محمد (صلى الله عليه وآله) وخليفته الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام) كما في قوله تعالى: { وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ } سورة آل عمران، آية 61.
ولما جعل الله تبارك وتعالى نبيه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه الصفة { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ }، أرسله ليتمم مكارم الأخلاق كما قال (صلى الله عليه وآله): ( بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ). بحار الأنوار للمجلسي، ج16، ص210.
وإن كان الأنبياء السابقون قد أسسوا ورسموا مكارم الأخلاق لنا فقد تممها النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله).
فإذا نظرت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خلال مرآة شفافة صافية وهي نفس القرآن الكريم أو من خلال مدرسة أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة والسلام) فسوف ترى الصورة الجميلة عن سيد الأنبياء (صلى الله عليه وآله) وأنها أكمل صورة إنسانية إبتدعها الله سبحانه وتعالى في خلقه.
ومن روائع ما وصفَ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) به النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، قوله: ( كان أجود الناسِ كفاً، وأجرأ الناسِ صدراً، وأصدقُ الناس لهجةً، وأوفاهم ذمّةً، وألينهم عريكةً، وأكرمهم عشرةً، من رآه بديهة هابه، ومن خالطهُ معرفةً أحبّه، لم أرَ قبلهُ ولا بعدهُ مثله ). مكارم الأخلاق ص 17.
ومن نماذج تعامله وأخلاقه (صلى الله عليه وآله) ما ذكرته الكتب والروايات:
– كان (صلى الله عليه وآله) يجلس على الأرض. الآمالي للشيخ الطوسي ص393.
– ويأكل مع العبيد، ويسلم على الصبيان. الأمالي للصدوق المجلس السابع عشر، ح2، ص130.
– وكان يأكل أكلة العبد، ويجلس جلسة العبد. المحاسن ص456، باب 51، ح 386.
– مرت به امرأة بدوية وكان يأكل وهو جالس على الأرض، فقالت: يا محمد، والله إنك لتأكل أكل العبد، وتجلس جلوسه.، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ويحك أيُّ عبدٍ أعبد مني ؟. الكافي ج2، ص157.
– وكان يرقع ثوبه.
– ويحلب عنز أهله.
– ويجيب دعوة الحر والعبد.
– ويعود المرضى في أقصى المدينة.
– ويجالس الفقراء، ويأكل مع المساكين.
– وكان إذا صافحه أحدٌ لم يجر يده من يده حتى يتركها الآخر.
– ويجلس حيث ينتهي به المجلس.
– ولا يثبت بصره في وجه أحد.
– يغضبُ لربه ولا يغضبُ لنفسه. مناقب آل أبي طالب ص 146 – 147.
وإن مثل هذا الرسول العظيم يستطيع أن يقول: ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ).
وأنـى يتيسر شرح فضائله الأخلاقية، والله عز وجل يقول له: { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ }.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وبارك على محمد وآل محمد، كما صليتَ وباركتَ على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين.
خادم الآل
الميرزا زهير الخال
النجف الأشرف
الثلاثاء ١٣ ربيع الأول ١٤٣٨هـ.
الموافق ١٣ / ١٢ / ٢٠١٦م.